يقوم شركاء الحكم في تونس بنقاش عقيم حول شكل الحكومة لما بعد عهد نظام الاستبداد. وخلال مؤتمرها التاسع، قررت حركة النهضة دعمها للنظام البرلماني في حين يفضل قادة الأحزاب السياسية الأخرى نموذج نظام رئاسي معدل. لذلك، هدد بعض السياسيين المحسوبين عل النهضة باجراء استفتاء عام لتسوية هذه المسألة. ورغم أن هذه المسألة قد تكون مهمة، فإنها ليست بالأساسية اللازمة. فيبدوأن قادة تونس السياسيين لا يأخذون مأخذ الجد مسؤولياتهم في وضع أساس متين لحكم قد يلهم بقية العالم العربي نظرا لمكانة تونس التاريخي باعتبارها رائدة الصحوة العربية.
نظرا إلى أن العديد من قادة تونس الجدد هم من السجناء السياسيين و/أو منفيين سابقا، فقد كان أحرى بهم أن يسألوا عن الهياكل المؤسساتية والدستورية التي قد تكون قادرة على منع النظام السابق من تعذيب السجناء السياسيين، واعتقال نشطاء تعسفا، وإجبار بعض ألمع المواهب الى المنفى والهجرة إكراها و ظلما. ينبغي أن يكون اهتمامهم بتحديد مؤسسات الحكم الضرورية لحماية كرامة المواطنين ومنع الاستبداد والطغيان، ومحاربة الفساد، واستئصال آفة الرئاسة مدى الحياة. فضحايا الاستبداد لا يهمهم إن كان سوء المعاملة يجري في ظل نظام رئاسي أو برلماني أو ملكي، بقدر ما يهمهم أن لا يحدث الظلم والاستبداد في المقام الأول.
صحيح، قد يكون للنظام الرئاسي بعض الفضائل والمحاسن أكثر من النظام البرلماني، والعكس كذلك. ولكن لا يمثل أحدهما أو الآخر الحكم الفاضل بالضرورة. محدودية النظامين واضحة بما فيها تلك الموجودة في الديمقراطيات الغربية. وحتى نماذج الحكم الإسلامية الناشئة تعاني من المساوئ والمشاكل العملية والنظرية. ففي تركيا، مثلا، البلد الذي ترغب حركة النهضة في محاكاة نموذجه، يعكف قادة ما يسمى بالاسلام المعتدل على ترقيع الدستور من أجل تقوية صلاحيات رئاسة الجمهورية لتهيئة المؤسسة للقائد الطموح، رجب طيب أردوغان، ليتولاها لما تنتهي دورته الثانية والأخيرة كرئيس للوزراء. في إيران، كذلك، فقد ألمح قائد الثورة هناك إلى إمكانية تعديل الدستور والرجوع إلى النظام البرلماني لتجنب أزمة الإنتخابات الرئاسية المثيرة للجدل عام 2009.
من المفيد أن يفكر التونسيون، كرواد التغيير المدني اللاعنفي في العالم العربي المعاصر، في أبعد من حدود أشكال الحكم. يجب عليهم التفكير في المؤسسات والضمانات الدستورية التي من شأنها أن تسمح لهم بالتغلب على القيود المفروضة على النماذج الغربية ومساوئها. فيتمتع التونسيون بعامل "فوات الأوان" للتعلم من تجارب الديمقراطيات الأخرى التي سبقت. ولذلك، فإنه بإمكانهم بناء نظام خال من أوجه القصور في النظم السياسية القائمة. وقد يتحقق ذلك بالبدء في طرح الأسئلة الصحيحة والبنائة وتقديم اجابات من "وراء ستار الجهل ". مما يعني أن يتصور صائغو الدستور الجديد أنفسهم مكان السجناء السياسيين، والمزارعين الفقراء، والفنانين المبدعين، والعلماء المبتكرين ورجال الأعمال النزهاء، والعمال الكادحين، والطلاب الطامحين، والمواطنين العاطلين عن العمل كليا أو جزئيا... ومن ثم طرح هذا السؤال: ما هي المؤسسات التي ينبغي لنا أن نكرسها لحماية حقوق وكرامة المواطنين المستضعفين والمهمشين لزاما وقطعا.
قد تساعد صياغة الدستور من "وراء ستار الجهل " على إقامة حكومة عادلة، ووضع دستور يكرس الحكم الرشيد، وحماية مؤسسات المجتمع المدني. كحد أدنى، يجب أن يكرس هذا الدستور الجديد مبدأ الفصل بين السلطات الحاكمة، وحماية الصحافة كسلطة رابعة للحكم المسؤول وضمان الوصول إلى السجلات والوثائق الخاص بالحق العام، وفرض حدود زمنية (لا تتعد العشر سنين) على جميع المسؤولين المنتخبين، وتوفير مبادئ توجيهية كشفية صارمة عن تلقي الأموال الداعمة للحملات الإنتخابية. ينبغي أن يحمي الدستور الجديد حقوق الفقراء قبل الأغنياء، وأن ينصر المظلومين أمام الظالمين، وأن يدافع عن الضعفاء قبل الأقوياء، وأن ينصف ضحايا الإستبداد، وأن يحافظ على كرامة الإنسان، وأن يأمن أرواح وممتلكات جميع المواطنين بدون تمييز.
على واضعي الدستور الجديد التركيز على الابتكار لا التقليد. فالعديد من الأنظمة الديمقراطية الغربية تعاني من دساتير عفا عليها الزمن، ومنظمات حزبية فاسدة، وتغلغل أصحاب المصالح الخاصة ، وارتفاع تكلفة المشاركة في الحياة السياسية. على واضعي الدستور التونسي الجديد تجنب هذه المساوئ والمباشرة في سن دستور يرتقي إلى مستوى تضحيات وتطلعات كل التونسيين.
ليست هناك تعليقات:
Write comments