محمد يوسف
لقد اقحمت التغطية التلفزية المباشرة لمؤتمر النهضة الجمهور العريض, ولم يبق مجال للشك ان رسالة استعراض القوة النهضوية قد تلقفها الناس بشكل موسع رغم اختلاف الاستعاب والفهم والتأويل . ولكن التونسيين ، الذين يجمعون على ان حزب النهضة هو الاقوى على الساحة الآن بمسافات فارقة تفصله عن البقية ، يتوجسون خيفة يكتنفها الغموض والحيرة ما دام احتكار القوة والانفراد بالصدارة قد يحيل الى ماض يريدونه بلا عودة ..
صحيح ان عودة الاسلاميين تأتي من غياهب السجون ومن مآسي النفي والتهجير القسري ، باعتبارهم اشد الناس حرقة ولوعة من جراء سطوة الديكتاتورية ، ويفترض ان يكرهون عودتها كما يكرهون ان يرموا في النار..واذا كان شبح الماضي لا يفارق الجميع , وقد كان هذا العنصر حاسما في اختيار النهضة من قبل من توجهوا لصندوق الاقتراع في اكتوبر الماضي .
اما اليوم وبعد مضي حوالي سنة من حكم الترويكا للبلاد بقيادة النهضة فان الاحداث المتتالية التي تشهدها البلاد ، والحيرة المتراكمة حول المصير والمستقبل نتيجة عثرات الانتقال الديمقراطي وتواصل تردي الاوضاع الاجتماعية… كل هذه الاوضاع تدفع الشعب الان الى عدم الاكتراث بماضي المناضلين والتركيز على القرارات والاجراءات اليومية والتي ستحدد المستقبل…
وفي هذا السياق يتنزل مؤتمر النهضة عند عموم الناس ، وهم الآن اضحوا ابعد ما يكونون عن استحضار ماضي الحركة ونضالاتها وما طالها من اضطهاد وظلم..وهذا التراث النضالي لم يعد يعني الناس كثيرا لانهم معنيون اكثر بتقييم اداء حاكمهم تجاه مطالبهم الملحة والمتجددة . وفي المقابل لا تستطيع النهضة ان لا تصيغ روح مؤتمرها الاول زمن الحرية والتمكين على سنفونية قيم الصبر والمغالبة والتضحية والجهاد وفاء لذاتها وانسجاما مع زمنين لا ينفصلان بمنطق المقدمة والنتيجة . ولكنها تخاطب نفسها..
اما محترفي السياسة فلا يمكنهم تجاوز قراءة المؤتمر ضمن دائرة الحملة الانتخابية والحملة الانتخابية المضادة ، خاصة وان النهضة قد امعنت في استعراض متعدد الواجهات للقوة والثبات ، وغلبت البروبقندا عن النقد الذاتي , وفاء لعقلية المواجهة , وعجزا عن التخلص من الوقوع في ردة الفعل. وفي ما يلي بعض الملاحظات حول وقائع المؤتمر :
1. لقد عكس المؤتمر اشعاع النهضة وبريقها عند دول الجوار ولدى مناطق نفوذ الربيع العربي كربيع للاسلاميين , ولم يكن مفاجئا زخم مشاركة حماس وممثلين عن الاخوان من مصر والكويت والسودان المغرب وليبيا.. رغم جنوح العديد منهم الى مسك زمام السلطة في بلدانهم , وهذا ما يجعل حماسهم وحميتهم للنهضة الملهمة والقائدة لهذا المسار وذلك لكونها بنت تونس اصل الثورة ومنطلقها اولا , ولكون فكرها بقيادة الغنوشي يتخذ مقام التجديد والريادة والتنوير الديقراطي الاسلامي ( العلماني ) ثانيا .
2. ان الحضور العربي والدولي المتميز لللمؤتمر .. لا يحجب سحب الصيف المتراكمة والتي تجعل النهضة في ما يشبه العزلة وطنيا في علاقتها مع بقية الاحزاب السياسية…ورغم الحضور الفعال لبن جعفر وحماسه الذي لا يتناساه الملاحظون والمقترن باشارات الرئاسية القادمة . ورغم انباط عديد الشخصيات الوطنية الرمزية كالمستيري وبن صالح.
ولكننا نجد من جهة اخرى وضعا آخر, فلم يكن غياب زعماء الاحزاب العريقة التي تصدت لبن علي وكانت النهضة ضمن كتلتها ليمر مرور الكرام , لان غياب حمة الهمامي ونجيب الشابي وبن براهيم وغيرهم , وعدم استجابتهم لدعوة النهضة لحضور عرسها التاريخي , يترك استفهامات عديدة مضادة تماما لبشائر المؤتمر المتعلقة بالمراهنة على التوافق بين مختلف الاطراف السياسية والوطنية بغض النظر عن الحاصل الانتخابي , وقد قدم هذا الخيار على انه رهان النهضة وعيا منها انه لا بديل عنه باعتباره المنفذ الوحيد لتحقيق اهداف الثورة واستكمال الانتقال الديمقراطي ضمن وفاق وطني يجنب مطبات الاستقطاب والصراعات غير المؤطرة.
3. لم يكن من السهل على النهضة الدخول في جوهر موضوع المؤتمر و اعطاء المضامين المستوجبة حقها , ونعني بذلك خاصة :
• الخوض الحاسم في مسألة الانتقال من ماهية وهيكلة الجماعة الاسلامية السرية الى حزب علني حاكم والفصل بين الجانب الدعوي التربوي والجانب السياسي الحزبي .
• تفعيل البعد الديمقراطي داخل الحزب وعدم الاكتفاء بلافتة الانتخابات التي تعتمد في تحديد المسؤوليات, ومواجهة عقدة المؤسسة والشخص بما في ذلك الرئاسة الدائمة لراشد الغنوشي وكأنه لا بديل عنه والحل الاوحد .. وهذا النمط يستمر في الحزب الجديد في مختلف هياكله..
• لو عدنا الى ملامح المؤتمرين من خلال صفات الشخصية ومؤهلات القيادة لوجدنا النزعة العقائدية والالتزامات الدينية معيارا محددا للارتقاء نتيجة مقتضيات عمل الجماعة الدينية التي تأسس ضمن قواعدها التنظيم ، والذي صبغها بمؤهلات القيادة والفاعلية السياسية والجدوى التنظيمية . وهذا ما يطرح سؤالا محددا حول مدى امكانية حصول ولادة طبيعية لحزب يأتي من رحم تنظيم الجماعة على اسس مدنية وقادر على مواجهة وضعيات المنافسة الجديدة والتي تقوم على استقطاب مواطنين وتسعى للظفر بأصوات عموم الشعب.
• في ظل التنافس الشرس لافتكاك المواقع وتوسيع دوائر المناصرة يبرز على السطح تحدي ادماج عدد كبير من التجمعيين غير المورطين في الفساد والبعيدين عن دوائر القيادة ضمن هيكلية التجمع المنحل , وهؤلاء يشكلون قوة انتخابية كبرى ويضمون عددا مهما من الكفاءات والخبرات .. فهل ستترك النهضة المجال مفتوحا لمبادرة السبسي وللاحزاب الرديفة للظفر بهذه القوة وتفعيلها ضمن المنافسة او ضمن الثورة المضادة ؟
• في مستوى العلاقات الخارجية هل يدلي المؤتمر بدلوه في ما يخص انسداد الافق السياسية مع فرنسا الشريك الاول لتونس على جميع الاصعدة ، وفرنسا على اقتدار في ضم عددا من الفاعلين السياسيين والاعلاميين والمثقفين ورجال الاعمال لدائرتها .. فكيف ستجد النهضة حلا لهذه المعضلة والتي ان بقيت مؤشراتها على ما هي عليه الآن ستدفع بالبلاد الى المزيد من انسداد الافق.. والتحدي هنا يحوم حول مربع ” لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي “..
• تبقى لوائح المؤتمر مغرقة في التقنيات المتداولة ويمكنها ان تشبه مثيلاتها … لكن هل تحسم لائحة خاصة علاقة الحزب بالسلفية والتيارات المتشددة الموجودة على ارض الواقع بشكل بعيد عن التعويم والقوالب المتداولة في نبذ العنف واحترام الاختلاف , لتطرح بوضوح خارطة الطريق في التعامل مع اعداء الديمقراطية ولو كانوا على دين وبركة انتخابية .. وهل يتم الحسم في طبيعة المشروع المجتمعي في اتجاه الخاص والمميز للنهضة عن غيرها , ما دام الجميع يضع نفسه في مربع الوسط ويدافع عن الهوية العربية الاسلامية و ويتبنى الوسطية في الاسلام..
في الختام يبقى هذا المؤتمر محطة فاصلة لانه مشحون بالضمني والمسكوت عنه رغم هواجس الانتخابات القادمة وطغيان الحركة على الحزب .. وفنون كتمان الاختلافات والصراعات.. وللنهضة موعد في مؤتمر آخر قد يتدارك المسكوت عنه ويسمي الاشياء بمسمياتها.
ليست هناك تعليقات:
Write comments