تونس |
الفوسفات واحد من ركائز الاقتصاد التونسي، ولكنه يمثل من الناحية الاجتماعية قنبلة موقوتة كادت سنة 2008 تعْصف بنظام بن علي حين انتفض أهالي الحوض المنجمي (بالجنوب الغربي)، مُطالبين بحقهم في الشغل والتنمية والتوزيع العادل للثروات. وبعد 2011، تعددت الاعتصامات المُعطلة لإنتاج الفوسفات إلى درجة أن الحكومة أعلنت في نيسان/ابريل الفائت تعليق المفاوضات مع المُحتجين وأطلقت حملة إعلامية كبيرة لشرح «أزمة الفوسفات» مركزة على بعض الأرقام:
ـ تراجع الإنتاج: من قرابة 8 مليون طن سنويا إلى 2.7 مليون طن سنة 2012.
ـ الخسائر المالية: 3 مليون دينار يوميا، وقرابة 2000 مليون دينار خلال سنتي 2011 و2012.
ـ مضاعفة عدد عمال شركة فوسفات قفصة ثلاث مرات في سنتين (من 9 الاف الى 27 الف عامل).
وقد ذهبت الحكومة إلى حد «التهديد» بغلق شركة فوسفات قفصة، وهذا مستغرب لأن الشركة تكاد تكون المُشغل الوحيد في مدن الحوض المنجمي، ولأن الفوسفات من مصادر العملة الصعبة للبلاد، ولأن الحكومة تواجه حاليا أزمات عديدة فليس من مصلحتها المُجازفة بمثل هذا التصعيد. فهل أن هذا التهديد مُناورة أم إقرار رسمي بالفشل؟ وهل أن في الإقرار بالفشل تمهيدا لتخلي الدولة عن «إصلاح» قطاع الفوسفات؟
حكومات الثورة تواجه الأزمة بالضياع
رغم أن الخطاب الرسمي يعتبر «ثورة 14 جانفي» (التي أزالت بن علي من السلطة عام 2011) ثورة اجتماعية، وان شرارتها انطلقت من المناجم، فان حكومات ما بعد الثورة تشترك في قراءة سطحية للمشكل جعلتها تتخذ حلولا إدارية غير مناسبة. تعتبر الحكومة «أزمة الفوسفات» مُجرد تعطيل للإنتاج بسبب احتجاجات اجتماعية تطالبُ أساسا بالشغل. فالأزمة بنظرها ظرفية (مرتبطة بالانفلات الأمني والاجتماعي)، ومعزولة. بل يجد بعض الرسميين أحيانا في هذه الأزمة ملامح نعرات جهوية «انفصالية» (!)، وبعض التآمر السياسي من «متطرفين يسعون إلى تخريب الاقتصاد لغايات سياسوية». ويبدو من خلال النتائج الميدانية، أن هذه القراءة، وما اقترحته من «تسويات إدارية»، لم تمنع تعفن الوضع الاجتماعي والاقتصادي، إذ تواصلت الأزمة منذ أكثر من سنتين، ولم تقترح الحكومة بعد أي خطة إنقاذ، بل تبدو وكأنها تعيد الأخطاء السابقة نفسها، وخاصة منها:
- الاعتقاد بأن وزارة الصناعة قادرة على التصدي للأمر وحله. والحال ان هذه الأزمة هي أزمة وطنية كبرى وكان يجب ان تكون من أوليات الحكومة.
- التركيز على هدف وحيد وهو «الرجوع بإنتاج الفوسفات الى مستوى ما قبل 2011»، وافتراض إمكانية تحقيق هذا الهدف الكمي دون اي إصلاحات جوهرية.
- إلقاء مسؤولية الأزمة على «الآخرين»، وتصويرها كجزء من الصراع السياسي على السلطة.
- تجاهل المطالب المتعلقة بالشفافية، واستقلالية المؤسسات، وضرورة مراجعة السياسة الاستخراجية.
وعموما فإن الحكومة اختارت منهج «إدارة الأزمة». وهي اكتفت بوسائل التسكين التقليدية، التي تتميز بالزبائنية والمحاصصة والتسييس وبنظرة قصيرة المدى...الخ. وأما قيامها بتنازلات خارج إطار خطة شاملة ومعلنة، فهو يعطي الانطباع بانها ضعيفة، ويؤجج الطلبات الجديدة، ويهدد الأمل في الوصول الى حل جذري ودائم.
ويبدو ان امتداد الأزمة في الزمن يزيد في قوة الاحتجاجات الاجتماعية. وبالمقابل يبدو ان الزمن يزيد الحكومة ارتباكا و«هروبا الى الامام»، ويدفعها الى العودة الى التعامل مع مشكلة الفوسفات (المؤسسات والجهات والمجتمع المدني) بطريقتها التقليدية الفوقية، البطيئة وغير الشفافة، بدليل عزلها مؤخرا للرئيس ـ المدير العام لشركات الفوسفات، ورفضها الخطة التي اقترحها لإنقاذ الشركة والقطاع والمنطقة بكلفة إجمالية لا تتعدى 400 مليون دينار.
... أم هي أزمة سياسة استخراجية؟
بعد 14 كانون الثاني /يناير 2011، وبالتوازي مع تعطيل إنتاج الفوسفات، تمّ تعطيل إنتاج عدد من الحقول النفطية. ولكن هذه الأخيرة عادت إلى سالف نشاطها. فلماذا تفشل وزارة الإشراف والأطراف النقابية في فك اعتصامات الفوسفات في حين تنجح في فك اعتصامات النفط؟ هل لان شركات الفوسفات مملوكة كليا للدولة بخلاف شركات النفط؟
إنّ طَرْح مثل هذه الأسئلة ينقل الموضوع من «احتجاجات اجتماعية» الى مستوى يتعلق بمدى توفر الإرادة السياسية ومدى توافق المقاربة الحكومية مع الحقائق الميدانية. فالسياسة الاستخراجية اجمالا لا تزال، منذ أكثر من قرن، غير اجتماعية، هدفها الأول «زيادة الأرباح بأي طريقة»، وهو ما يذكر أهالي الحوض المنجمي بعهد النهب الاستعماري، لأن منطقتهم لا تزال تعيش الفقر والأمراض والتلوث. ثم ان هذه السياسة الاستخراجية لم تخضع بعد الى تقويم، رغم ان جلّ البلدان التي عرفت تحولات ديمقراطية بادرت الى مراجعة سياسة التصرف بمواردها الطبيعية وإعادة هيكلة هذا القطاع الاستراتيجي ومراجعة إطاره القانوني والتدقيق في العقود والسياسات السابقة... خدمة للتنمية وتفعيلا للعدالة الاجتماعية. فقطاع الفوسفات بحاجة اليوم الى رؤية واضحة، وخطة متكاملة، وقيم جديدة متفق عليها، وجرأة سياسية، وقدر من الشفافية تشمل أيضا «الصفقات الاجتماعية» التي حصلت بعد الثورة بدعوى «إعادة الانتاج»، والتي يبدو ان هدفها البحث عن توازنات اجتماعية ـ نقابية، وتحالفات جهوية وسياسية.
بقطع النظر عن طبيعة «أزمة الفوسفات» وأسبابها، فمن الجنون أن تتواصل هذه الكارثة طيلة سنتين رغم تكلفتها المالية والاجتماعية العالية، ورغم مخاطرها السياسية، ورغم تهديدها لمستقبل القطاع. كما أن تواصلها يضعف القطاع نفسه أمام ضغوط أطراف عديدة (ليس الأحزاب والأهالي والنقابات فحسب، بل الشركات الدولية...). إذ من شأن هذا جعل القطاع أكثر من أي وقت مضى رهينة لابتزاز أطراف متربصة تنتظر الظروف لتمرير مشاريع مشبوهة أو لتسوية وضعيات غير قانونية أو للحصول على امتيازات استثنائية. وسواء تعلق الأمر بالفوسفات أو بالطاقة، بالحكومة أو بوزارة الصناعة أو بالمؤسسات العمومية، بالجهات أو بالنقابات، فان الثابت اليوم هو أن هذا القطاع الاستراتيجي يعاني، إضافة إلى المشاكل الظاهرة (الاحتجاجات الاجتماعية وأزمة الإنتاج)، من مشاكل أكثر أهمية. قطاع الصناعات الاستخراجية يعيش اليوم حرب تموقع وصراع لإعادة توزيع الأدوار بين «شبكات فساد» تحدث عنها بعض الوزراء ولمحت إليها بعض التقارير الرسمية، مثل تقرير «لجنة تقصي الحقائق حول الفساد والرشوة» (2011 ) وتقرير «دائرة المحاسبات حول قطاع الغاز» (2012). والتقرير الاول اكد بالأسماء وجود شبكة فساد في قطاع الطاقة تضم تونسيين واجانب وعددا من المسؤولين في المؤسسات العمومية والخاصة، وذكر التقرير ان لديه وثائق التحويلات المالية لعناصر هذه الشبكة خارج تونس. اما التقرير الثاني فأكد وجود خروقات كبيرة وشاملة في قطاع الطاقة في جميع المستويات، من منح رخص الاستكشاف الى الجباية والعقود والمراقبة، وهو ما يحرم ميزانية الدولة من مداخيل طائلة.
ورغم تعهد رئيس الحكومة بالالتزام بالوضوح في هذا القطاع، واعلانه النية في الانخراط في «المبادرة الدولية للشفافية في الصناعات الاستخراجية» (EITI )، إلا أن المفارقة أن الحكومة تناقش بلا خطة بعض أضخم وأهم مشاريع الطاقة والمناجم (مثل منجم الفوسفات بصراورتان، ومصفاة النفط بالصخيرة، وانبوب غاز الجنوب، ورخص استكشاف الغاز الصخري...).
ويُحمِّل بعض السياسيين الرسميين «الفوسفات» (والمحتجين) مسؤولية ارتهان تونس لصندوق النقد الدولي، بحجة ان القروض الضخمة التي طلبتها تونس تساوي قيمة خسائر القطاع! وهكذا يُبرر الفشل بالفشل وتضيع المواضيع الرئيسية. ان اختزال «ازمة الفوسفات» في أزمة إنتاج (حسب الحكومة) او ازمة تشغيل (حسب الأهالي) يؤجل أي نقاش جدي لتطوير القطاع من خلال الإسراع بـ:
- التدقيق في العقود المبرمة ودعم رقابة الدولة عليها ونشر تقرير رسمي للغرض.
- اعادة هيكلة القطاع وتطوير إطاره القانوني وخاصة فيما يتعلق بطريقة اسناد الرخص ومراقبتها.
- إصدار تقارير دورية حول كل المشاريع والمصاريف والعائدات.
- الإجابة على كل الخروقات التي كشفها تقريرا لجنة تقصي الحقائق حول الفساد ودائرة المحاسبات وإبعاد كل من اتهمتهم التقارير الرسمية عن مواقع القرار، ومحاكمتهم.
* باحث، ورئيس «الجمعية التونسية للشفافية في الطاقة والمناجم»
ليست هناك تعليقات:
Write comments