الجمعة، 11 يناير 2013

هرمنا هرمنا في انتظار دستور غودو

    الجمعة, يناير 11, 2013   No comments


رددت الجماهير الثائرة في تونس، في أواخر 2010 ومطلع 2011، شعارا خارجا عن مألوف الشعارات في المظاهرات الشعبية في البلاد العربية. كان شعارا عديم الصياغة 'الشعاراتية'، خلوا من الاهتمام بطلب ما هو معتاد في مثل هذه الحالات من غرض السجع، أو ما يوحي باقتفاء أثره. كان شعارا ناكرا لسلالته، نافيا لشعاريته.

'الشعب يريد إسقاط النظام'. جملة فعلية تامة الأركان. خبرية من كل الوجوه. مستوفية شروط الإخطار بالنسبة لمن هو آيل إلى السقوط، بالغة حدود الإشهاد بالنسبة لسائر الشعوب. الإشهاد العالمي على القصدية وسبق الإصرار، وعلى أن القائل هو الفاعل: شعب قادر على الإرادة، وقد أراد. كانت الجماهير تردد الشعار بسرعة لافتة، حيث كانت وتيرة الهتافات متسمة بالتعجل (بل بالتوتر) ذاته الذي غالبا ما يسم عادي الكلام باللهجة التونسية. وعندما انتشر الشعار في الشهور التالية، أصبح من الواضح أن الجماهير في أرجاء أخرى من البلاد العربية لا تهتف به بنفس الأسلوب، بل بوتائر أبطأ وبلهجات أقل حدة.


وكما اشتهرت الثورة التونسية بشعار 'الشعب يريد إسقاط النظام'، فقد ارتبطت أيضا بنداء 'بن علي هرب' الذي ظل المحامي عبد الناصر العويني يهتف به في شارع الحبيب بورقيبة في الليلة الفاصلة بين 14 و15 كانون الثاني (يناير)، في فيض شعور وطني (لا يزال يفعل فعله في السامعين إلى اليوم) وفي محض تجلّ إنساني بالغ، بصدق عاطفته، درجة الشهادة التاريخية. وما هو إلا يوم أو يومان حتى عمت أنحاء الوطن العربي عبارة تونسية أخرى، هي تلك التي أطلقها المناضل أحمد الحفناوي عندما نادى وهو يغالب العبرات: 'هذه فرصتكم أيها الشباب التونسي. تستطيعون أن تقدموا لتونس ما لم نقدم لها نحن لأننا هرمنا.. هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية'. نداء ظل يتكرر لشهور، في صيغة ومضة تلفزيونية، إلى حد أننا رأينا أطفالا صغارا، من لبنان وبلاد عربية أخرى، وقد حفظوه وصاروا يرددونه في تقليد بريء للهجة الحفناوي وحركته وهو يمرر يده على شعر رأسه الدال ببياضه على هرم جيل كان التاريخ قاسيا عليه غير رحيم.

فماذا بقي من الثورة الشعبية التونسية بعد عامين؟ بن علي هرب؟ نعم هرب، ولكن نظامه لم يهرب. لزم الهدوء زمنا حتى ظن الشعب أنه اختفى. ولكنه ما لبث أن عاد للظهور حين تبين له أن لا خوف عليه من وضع جديد ليس له رب سياسي يحميه. وضع جديد لم يقيض له من الساسة من هو أهل لمسؤولياته الجسام. عاد نظام بن علي للحكم مع أنه لم يعد في السلطة (إذ من المكن أن تكون الحكومة 'في السلطة دون أن تكون في الحكم'، حسب القولة الشهيرة للسياسي البريطاني نورمن لامونت). لا يزال نظام بن علي متحكما في دواليب الإدارة يمضي ما يريد ويعطل ما يشاء. لا يزال نظام بن علي ماسكا بما يسمى 'الدولة العميقة'، ولهذا لا تزال الوزارات، في بعض أجهزتها، خارج سيطرة الحكومة، بل هناك من الوزراء من لا يثق في موظفي وزارته فيحرص على أن ينزل في المصعد بنفسه ليسلم الملفات بيده للقلة من أهل ثقته.

هرب بن علي ولكن نظامه لم يهرب. وها إنه قد وجد تعبيره السياسي المرتاح الضمير في حزب 'نداء تونس'. صحيح أن هذا الحزب يضم في عضويته وقيادته عددا من الوطنيين والليبراليين وذوي الكفاءات المخلصين، ولكن الصحيح أيضا أنه اجتذب منذ البداية كثيرا من أعوان نظام بن علي، ليس من الموظفين المغلوبين على أمرهم فحسب، بل خصوصا من المتحسمين والمستفيدين، حتى صار ملاذا لمنافقي الثورة ومختبرا لإعادة تدوير إيديولوجيا العهد السابق.

ماذا بقي من الثورة التونسية بعد عامين؟ هرمنا؟ نعم هرمنا. ولكن ليس من أجل اللحظة التاريخية التي سرعان ما تلاشت كأنها لم تكن أبدا، بل إننا هرمنا.. هرمنا من طول انتظار هذا الدستور الذي ينافس غودو في عدم المجيء. 

اختارت تونس النهج الصحيح رغم أنه الأصعب: إعادة التأسيس لجمهورية جديدة، ولكنها لم تعهد بالمهمة التاريخية المفعّلة لإرادة الإقبال الوحدوي على المصير (صياغة دستور مفتوح على الأحقاب) إلى شخصيات علمية وثقافية وحقوقية زاخرة لجوهر الذاتية التونسية المعاصرة ومعبرة عن روح الإجماع الوطني، بل إنها توخت ما لا ينبغي من احتياط ديمقراطي نافل أصلا، فعهدت بالمهمة إلى فاقد الشيء: إلى خليط من أحزاب سياسية متباغضة 'لا يرى' كل منها 'أبعد من أنفه' الانتخابي. 

مالك التريكي

المصدر

K-Store

About K-Store

فرقة التحرير

Previous
Next Post
ليست هناك تعليقات:
Write comments

المقالات الأكثر قراءة

المواضيع

'سلفية «سيدي بو زيد أبو يعرب المرزوقي أحمد سوايعية أحمد بن بله أخبار أخبار الكاف استنبول الاتحاد العام التونسي للشغل الاتحاد من أجل تونس الاجتماع التشاوري حول سوريا الإخوان المسلمون الاردن الاسد الإسلام السياسي الاسلاميون الأصولية الإسلامية الإقتصاد الاقتصاد التونسي الأمازيغ الأميرة بسمة آل سعود الإنتخابات الباجي قائد السبسي الباجي قايد السبسي البحرين التطاول على دولة قطر التكفير الجزائر الجهادية السلفية الدولة الاسلامية الربيع العربي السعودية السلفية السلفية الجهادية السلفيون التكفيريون السودان الصوفية الطويرف العالم الإسلامي الغنوشي الفكر السلفي القذافي القرضاوي القصرين القيروان الكاف المجتمع التونسي المجلس الوطني التأسيسي المرسى المغرب المغرب العربي المنصف المرزوقى المنصف المرزوقي النهضة الولايات المتحدة الأميركية الوهابية السعودية اليمن امتثال أبو السعود امينة الزياني أنصار الشريعة أولمبيك الكاف إيران ایران ايران ﺑﺎﺟﺔ بثينة الزغلامي تاريخ الكاف تالة تركيا ﺗﺴﺘﻮر تكفير تونس ثورة تونس جامع الزيتونة جندوبة جندوبة، جهاد النكاح حبيبة الغريبي حركة "تمرد" حركة النهضة حركة نداء تونس حزب الله حقوق الانسان حكومة حبيب الصّيد حمادي الجبالي حماس خوارج العصر داعش دور الإعلام دولة القانون ذاكرة الكاف راشد الغنوشى راشد الغنوشي رفيق بن عبد السلام بوشلاكة روسيا رياضة ﺳﺎﻗﯿﺔ ﺳﯿﺪي ﯾﻮﺳﻒ ساقية سيدي يوسف سلفية وهابية سليانة سوريا سورية سيدي بوسعيد شكري بلعيد شمال أفريقيا صفاقس عادات وتقاليد عبد الفتاح مورو علي العريض علي لعريض غزة فرنسا فلسطين قابس قطر لبنان لمصر ليبيا مالي محمد منصف المرزوقي محمد يوسف مدينة الكاف مصر مصطفى الفيلاليالى مصطفى بن جعفر معتمدية كسري معدل البطالة منصف المرزوقي مهدي جمعة مهرجان قرطاج ميزانية تونس نصرالله نورالدين بالطيب هواري بومدين هيثم مناع هيثم منّاع والسعودية والمجتمع التونسي وضع المرأة ولاية القصرين ولاية الكاف ولاية باجة ولاية جندوبة Abdelfattah Mourou Ennahdha France Ghardimaou Ghribi Hamadi Jebali Japan le kef libya Marzouki Moncef Marzouki Mustapha Ben Jaafar Mutamar Rached Ghannouchi Sakiet Sidi Youssef salafistes Siliana Tawakkolk Tunisie

أخبار الكاف وأخبار العالم العربي والفضائيات العربية والإسلامية

Copyright © lekef.com. All rights reserved