رددت الجماهير الثائرة في تونس، في أواخر 2010 ومطلع 2011، شعارا خارجا عن مألوف الشعارات في المظاهرات الشعبية في البلاد العربية. كان شعارا عديم الصياغة 'الشعاراتية'، خلوا من الاهتمام بطلب ما هو معتاد في مثل هذه الحالات من غرض السجع، أو ما يوحي باقتفاء أثره. كان شعارا ناكرا لسلالته، نافيا لشعاريته.
'الشعب يريد إسقاط النظام'. جملة فعلية تامة الأركان. خبرية من كل الوجوه. مستوفية شروط الإخطار بالنسبة لمن هو آيل إلى السقوط، بالغة حدود الإشهاد بالنسبة لسائر الشعوب. الإشهاد العالمي على القصدية وسبق الإصرار، وعلى أن القائل هو الفاعل: شعب قادر على الإرادة، وقد أراد. كانت الجماهير تردد الشعار بسرعة لافتة، حيث كانت وتيرة الهتافات متسمة بالتعجل (بل بالتوتر) ذاته الذي غالبا ما يسم عادي الكلام باللهجة التونسية. وعندما انتشر الشعار في الشهور التالية، أصبح من الواضح أن الجماهير في أرجاء أخرى من البلاد العربية لا تهتف به بنفس الأسلوب، بل بوتائر أبطأ وبلهجات أقل حدة.
وكما اشتهرت الثورة التونسية بشعار 'الشعب يريد إسقاط النظام'، فقد ارتبطت أيضا بنداء 'بن علي هرب' الذي ظل المحامي عبد الناصر العويني يهتف به في شارع الحبيب بورقيبة في الليلة الفاصلة بين 14 و15 كانون الثاني (يناير)، في فيض شعور وطني (لا يزال يفعل فعله في السامعين إلى اليوم) وفي محض تجلّ إنساني بالغ، بصدق عاطفته، درجة الشهادة التاريخية. وما هو إلا يوم أو يومان حتى عمت أنحاء الوطن العربي عبارة تونسية أخرى، هي تلك التي أطلقها المناضل أحمد الحفناوي عندما نادى وهو يغالب العبرات: 'هذه فرصتكم أيها الشباب التونسي. تستطيعون أن تقدموا لتونس ما لم نقدم لها نحن لأننا هرمنا.. هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية'. نداء ظل يتكرر لشهور، في صيغة ومضة تلفزيونية، إلى حد أننا رأينا أطفالا صغارا، من لبنان وبلاد عربية أخرى، وقد حفظوه وصاروا يرددونه في تقليد بريء للهجة الحفناوي وحركته وهو يمرر يده على شعر رأسه الدال ببياضه على هرم جيل كان التاريخ قاسيا عليه غير رحيم.
فماذا بقي من الثورة الشعبية التونسية بعد عامين؟ بن علي هرب؟ نعم هرب، ولكن نظامه لم يهرب. لزم الهدوء زمنا حتى ظن الشعب أنه اختفى. ولكنه ما لبث أن عاد للظهور حين تبين له أن لا خوف عليه من وضع جديد ليس له رب سياسي يحميه. وضع جديد لم يقيض له من الساسة من هو أهل لمسؤولياته الجسام. عاد نظام بن علي للحكم مع أنه لم يعد في السلطة (إذ من المكن أن تكون الحكومة 'في السلطة دون أن تكون في الحكم'، حسب القولة الشهيرة للسياسي البريطاني نورمن لامونت). لا يزال نظام بن علي متحكما في دواليب الإدارة يمضي ما يريد ويعطل ما يشاء. لا يزال نظام بن علي ماسكا بما يسمى 'الدولة العميقة'، ولهذا لا تزال الوزارات، في بعض أجهزتها، خارج سيطرة الحكومة، بل هناك من الوزراء من لا يثق في موظفي وزارته فيحرص على أن ينزل في المصعد بنفسه ليسلم الملفات بيده للقلة من أهل ثقته.
هرب بن علي ولكن نظامه لم يهرب. وها إنه قد وجد تعبيره السياسي المرتاح الضمير في حزب 'نداء تونس'. صحيح أن هذا الحزب يضم في عضويته وقيادته عددا من الوطنيين والليبراليين وذوي الكفاءات المخلصين، ولكن الصحيح أيضا أنه اجتذب منذ البداية كثيرا من أعوان نظام بن علي، ليس من الموظفين المغلوبين على أمرهم فحسب، بل خصوصا من المتحسمين والمستفيدين، حتى صار ملاذا لمنافقي الثورة ومختبرا لإعادة تدوير إيديولوجيا العهد السابق.
ماذا بقي من الثورة التونسية بعد عامين؟ هرمنا؟ نعم هرمنا. ولكن ليس من أجل اللحظة التاريخية التي سرعان ما تلاشت كأنها لم تكن أبدا، بل إننا هرمنا.. هرمنا من طول انتظار هذا الدستور الذي ينافس غودو في عدم المجيء.
اختارت تونس النهج الصحيح رغم أنه الأصعب: إعادة التأسيس لجمهورية جديدة، ولكنها لم تعهد بالمهمة التاريخية المفعّلة لإرادة الإقبال الوحدوي على المصير (صياغة دستور مفتوح على الأحقاب) إلى شخصيات علمية وثقافية وحقوقية زاخرة لجوهر الذاتية التونسية المعاصرة ومعبرة عن روح الإجماع الوطني، بل إنها توخت ما لا ينبغي من احتياط ديمقراطي نافل أصلا، فعهدت بالمهمة إلى فاقد الشيء: إلى خليط من أحزاب سياسية متباغضة 'لا يرى' كل منها 'أبعد من أنفه' الانتخابي.
ليست هناك تعليقات:
Write comments