د. أحمد القديدي
كتب الزميل الفاضل عبد الباري عطوان خلال الأسبوع الماضي مقالا تحليليا واعيا عن دور الولايات المتحدة و المعسكر الغربي عموما في توجيه دفة الربيع العربي نحو تجزأة الدول العربية وتفتيتها إلى دويلات صغيرة على أسس طائفية مؤكدا أن هذه المخططات التقت مجرد التقاء تاريخي مع طموحات شعبية عربية مشروعة أسبابها العميقة تكمن في استمرار إستبداد فج و هوية مستباحة و فساد منتشر وحريات مصادرة وقمع منهجي و سيادة مهدورة و استقلال منقوص و بطالة شبابية وكرامة مستباحة ويربط بين المخلوعين جميعا حكم عائلي همجي تزينه عبارة "نظام جمهوري".
و إني أحببت هذا المقال لمعرفتي الشخصية القديمة بكاتبه و الأمانة التي يتميز بها مقرونة بشعور عروبي و وطني حي خدم به فلسطين و العرب. والطرح الذكي الذي قدمه عطوان يناقض سيل البهتان الذي انهمر علينا في كتب و دراسات وضعها بعض من أضرت هذه الثورات بمصالحهم و هزت عروشهم و زلزلت كراسيهم فاتفقوا على حيلة من كتاب الحيل العربية وهي الترويج لفكرة وقوف الأمبريالية الأمريكية و ذيلها الصهيوني وراء الربيع و التدليل الكاذب بأن كل ما عاشته تلك الجماهير من ملاحم لإستعادة الديمقراطية و بناء دول الحق و العدل رغم الأخطاء و التعثر الذي نراه ماهو إلا بضاعة مغشوشة باعها للعرب أعوان واشنطن و فلول الغرب و أزلام الأنظمة المخلوعة...إلى ما ابتدعه خيالهم المريض من مؤامرات شيطانية.
إنها طروحات ليست خاطئة تمام الخطإ و لكنها تختزل جزءا من الحقيقة و تخبأ جزءا أخر لأن التاريخ لا يفسر بالأبيض و الأسود و بالأخيار و الأشرار و بالحق والباطل فهو مسار معقد كل التعقيد يرفض هذه التصنيفات الساذجة و يستدعي العقول النيرة لتحلل الأحداث بالبصيرة الثاقبة و البرهان الساطع. و أنا بحكم التجربة السياسية التي خبرت خيرها و شرها على مدى أربعين عاما أزعم أني أستطيع أن أتبين خيط التاريخ الأبيض من خيطه الأسود كما يفعل الصائم في فجر رمضان لأقول أنني عندما كنت أتحمل جزءا من مسؤولية السياسة في موقع السلطة في تونس في مطلع الثمانينات كان يزورني في مكتبي باستمرار سفير الولايات المتحدة لدى تونس السيد (بيتر سيبستيان) وهو مستعرب و دبلوماسي مجرب (إضطلع بعد السفارة بمنصب مدير ملف الحركات الإسلامية العربية في وزارة الخارجية الأمريكية) وكنا نتناقش طويلا حول الدور الذي يمكن أن يلعبه الإسلاميون في تونس خاصة و في العالم العربي عموما و كنا في تلك المرحلة كحزب دستوري حاكم تحت الرئاسة المهزوزة للزعيم بورقيبة بحكم سنه المتقدمة وأمراضه العديدة و بطانته الفاسدة منقسمين إلى شقين متناقضين متناحرين: الشق العروبي المؤمن بالهوية الإسلامية و الحداثة الأصيلة و الشق العلماني الإستئصالي المقاوم لكل نفس إسلامي. و لم نكن نختلف في هذا الوضع عن مصر و ليبيا واليمن و سوريا وهو ما عطل مسيرة التنمية و أعاق حركة التقدم و أجل التعافي الوطني.
كان السفير (سيبستيان) يحاول إقناعي بما كنت مقتنعا به أصلا وهو أن الإسلاميين العرب ليسوا إرهابيين و أنهم يمكن أن يكونوا حلفاء دوليين لليبرالية العالمية المنتصرة على المد الشيوعي المتهافت وعامل إستقرار سياسي و أمني في المشرق و المغرب العربيين. و بالطبع فإن هذا الموقف الأمريكي ليس منبثقا من "محبة" رومنسية للعرب بل هو نتيجة ما يسمى الواقعية (أو البراغماتية) الأمريكية فانظر كيف أن نفس واشنطن التي ساندت الدكتاتوريات لمدة نصف قرن أصبحت اليوم تساند الشعوب ! و انظر إلى منظمة (فريدم هاوس) التي كان كبير المحافظين اليهود الأمريكان (ريشارد بيرل) أحد مؤسسيها كيف تتزعم حركات ما يسمى بالإصلاح العربي و كيف أن رئيس (السي أي إي) المخابرات الأمريكية الأسبق (جامس وسلاي) هو أحد مديريها و كيف أن سفيرة واشنطن السابقة في مصر (أن باترسن) هي إحدى صانعات القرار في المنظمة بينما يتقاسم أجهزتها الفكرية و التخطيطية كل من (جون ماك كاين) و (مادلين أولبرايت) و هما الشهيران بالدفاع المستمر عن تفوق إسرائيل على العرب داخل الإدارة الأمريكية أو الكنغرس. مع العلم أن الخزينة الأمريكية رصدت لهذه الجهود "الديمقراطية" مليار و 450 مليون دولار.
الحقيقة هي التقاء تاريخي بين طموحات عربية للتغيير و إرادة أمريكية لركوب الموجة فالولايات المتحدة قوة عظمى و مثلها مثل العملاقين روسيا أو الصين أو القوى الإقليمية المتوسطة كتركيا و إيران تحاول كلها خدمة مصالحها الحيوية في عالم يتغير بسرعة و تتبدل فيه التحالفات. المهم لديهم ليس نحن العرب و مصائرنا بل الأهم لدى هؤلاء هو أن يتكيفوا مع واقع عربي جديد مفروض علينا و عليهم كالقدر المحتوم وهو حلول الإعصار السياسي و الحضاري الذي هب على الأمة كما هب على أمم سوانا من قبل فتحررت شعوب أمريكا الجنوبية و سقط جدار برلين لتنهض شعوب أوروبا الشرقية و دخلت أغلب شعوب إفريقيا لمرحلة الشفافية واحترام إرادة الإنسان و حقوقه. هذا هو دور الولايات المتحدة و الغرب و ليس الربيع العربي من صنعها و لا يمكن أن يكون من صنع الغرب و لا إسرائيل. بل هو صنع محلي أصيل و ليس مهربا من تايوان !
ليست هناك تعليقات:
Write comments