كأخ أخاطبك اليوم يا شيخ راشد بعنوان المواطنة واخوة الإسلام، وكرفيق مسعى إصلاحي تشاركنا فيه عام 1983 عندما عقدت ندوة سيدي ظريف عن الصحوة الدينية وتحديات المعاصرة، ودعوت إليها صديقها وأخانا القديم حسن الترابي، وكان يومئذ وكيل رئيس جمهورية السودان، مع ثمانين مفكرا من خيرة النخبة العربية ، وذلك في نطاق مشروع المستقبلات العربية البديلة، بإشراف جامعة طوكيو لمنظمة الأمم المتحدة.
خطابي هذا موجه إليك وإلى رفاقك في حزب النهضة لمساءلتكم عن علاقة الشريعة المحمدية بمشروع قانون الإقصاء السياسي، المعروض لنقاش المجلس التأسيسي، وأنتم من دعاته المتحمسين وما برحتم مع ذلك تعلنون عن تمسككم بأحكام الشريعة، وتصرون على أن تكون مهيمنة على روح الدستور الجديد ومنطوقه.
وباسم هذه الشريعة السمحاء، أود مخاطبتكم «بالحكمة والموعظة الحسنة» كما أمرنا به صاحب العزة والرحمة. فالشريعة أصولها ثلاثة كما يعلم الجميع: آيات الكتاب وسنة رسوله الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام، وإجماع الأمة بعد اجتهاد علمائها. دعنا من الاجتهاد والقياس، فهو محل التنازع المحتدم اليوم، وهات نقتصر على أصول الكتاب والسنة. فلقد ورد في خمس سور من القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»، وفسرها الإمام الرازي في الآية 164 من سورة الأنعام: «معناه أن إثم الجاني عليه لا على غيره، ولا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى». وفسرها في الآية 15 من الإسراء والآية 18 من فاطر والآية 7 من الزمر ، والثامنة والثلاثين من سورة النجم : «بأن كل واحد مختص بأثر عمل نفسه، وأن المذنب لا يؤاخذ بذنب غيره، وأن شيخ المعتزلة الإمام الجبائي قال : «إن الله لا يعذب الأطفال بكفر آبائهم ولا يعذب أحدا على فعل غيره».
أستحي أن أواصل لديك الاستطراد في تفسير آيات من الكتاب أنت أدرى بمقاصدها، ولكني أستسمحكم في التذكير بالآية 12 من سورة الحجرات : « يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم». ولقد علمت يا شيخ راشد بأن قانونكم مبني معظمه على الظن وأن الظن عند الله إثم، وأن الفصل الرابع من القانون يدعو إلى التجسس بين المواطنين بعضهم على بعض، وإلى اغتياب بعضهم لبعض، وأن ذلك من أشنع الآثام وأقبحها كقبح أكل لحم الأخ وهو ميت وهو «غاية القبح» كما قال الرازي. وليس خاليا من القصد الرباني أن ختمت الآية بصفتين قدسيتين من صفت المولى تعالى : التوبة على الأخ المسلم والرحمة التي كتبها الله تعالى على نفسه في الآية 12 من سورة الأنعام. فما الذي أنتم ونحن جميعا فاعلون بهذه الأوامر الربانية. أنتغافل عنها وندس صفحاتها كما فعل بنوا اسرائيل بالتوراة «يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض» (البقرة 85). وهل يجوز أن ننسى أن مسؤولية الشأن العام إنما يباشرها المؤمن المكلف وفقا للخصال الحميدة التي أوصى بها الله نبيه الكريم إذ أنزل عليه الآية 159 من سورة آل عمران: «فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فضّا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكّل على الله». فأين لين الجانب في قانونكم الصارم وأين الرحمة وأين العفو وأين الاستغفار والمشورة. تعلم أيّها الشيخ ما قابل به الرسول الكريم أعداءه من قريش يوم فتح مكة، فوقف أمام البيت العتيق، يسألهم: «ما ظنكم أني فاعل بكم». قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، فأجابهم بروح اللين وبحكمة الرحمة وبقانون العفو والمغفرة « اذهبوا فأنتم الطلقاء».
فهل تعتبرون يا إخوة النهضة أن الباجي قايد السبسي أشد خطرا على مستقبل الثورة من أبي سفيان على دعوة الإسلام، وهل ترون أن منافسيكم اليوم في حلبة السياسة أشد عداوة عليكم وعلى شعبنا من عداوة قريش للرسول وصحبه وزوجته العظيمة خديجة أم المؤمنين في عشرية الدعوة المكية. أليس من تعاليم ديننا الحنيف أن نتخذ من سيرة رسول الله أسوة حسنة، فنجنح للصفح بدلا من الانتقام وإلى اللين مكان الغلظة وإلى العفو بديلا من الحكم بالظن وإلى الحكمة بدلا من ارتكاب خطيئة التفريق بين التونسيين، فأين الاتعاظ بسيرة رسول كريم بعثه الله: «ليتمم مكارم الأخلاق» أين ذلك في قانون يؤسس للنميمة والوشاية بين موظفي الإدارة الواحدة وبين المواطنين في الحي الواحد وسائر اماكن المعاشرة، أفنخلع الشرعية القانونية على مثل هذه الرذيلة النكراء.
إن مهمتنا جميعا اليوم، أن ننقذ بلادنا من الفتنة ، وهي أشد من القتل، وأن نحفظ وحدة وطننا وقد باتت مهددة بالضياع، وأن نؤمّن لشعبنا الأمن والاطمئنان والرزق الرغد، وأن نفتح لشبابنا أبواب الأمل الفسيح كما كتب الإمام الماوردي، وأن نكون في سبيل ذلك يدا واحدة على من عادانا وعزائم متناصرة في وجه الأعاصير، وإخوانا متحابين في رحاب الإيمان.
إنها اليوم ، يا شيخ راشد، فرصة تاريخية نادرة تتاح لنا جميعا، معشر المعتزين بنعمة الإسلام المتقوين بسلاح النور العقلاني، لنشرع «في النشأة المستأنفة» كما يسميها ابن خلدون، فنفتح الطريق لمجتمع يعتز بالإسلام دينا وحضارة ويعتمد الفقه المقاصدي في مراجع الشاطبي وابن عاشور، فنسلك بالإيمان التنويري سبيل الرقي الحضاري، ونعين على تدبر معضلات الحداثة الدهرية الاستهلاكية المتأزمة في القرية العالمية، فنستخرج ما في كوامن الحقل الفكري السياسي الإسلامي العربي من بذور العقلانية المبدعة ومن قوانين الأنظمة الاقتصادية الراعية لإنسانية الإنسان. فإن لنا من أهلنا علماء سبق وإبداع من أمثال فقيه القرن الثالث للهجرة يحي بن عمر صاحب «أحكام السوق» ودفين سوسة.
هذه سبيلنا العريضة الواضحة على درب البناة لمدينة الفارابي الفاضلة « تكتمل فيها للإنسان كمالاته الإنسانية» فلعل الله أن يثبّت إليها خطانا إنه هو ربّ الهداية والرحمة.
ليست هناك تعليقات:
Write comments