بقلم توفيق المديني
توفيق المديني |
ثمة شبه اتفاق بين مختلف مكونات المجتمع المدني التونسي أن ظاهرة العنف السياسي أصبحت ظاهرة مجتمعية وسياسية في الوقت عينه، لاسيَّما عندما تكون الأهداف والدوافع من قبل ممارسي هذا العنف، سياسية بامتياز. والعنف السياسي، هو استخدام القوة المادية أو التهديد باستخدامها، سواء من قبل نظام سياسي معين، أو قوة سياسية معينة، لتحقيق أهداف سياسية محددة.
في مرحلة ما قبل الثورة، كان العنف السياسي مُوجّهاً من قبل النظام الديكتاتوري السابق ضد القوى السياسية المعارضة على اختلاف مرجعياتها الفكرية والسياسية، حيث مارس النظام السابق العنف ضد مناوئيه، لاسيَّما الإسلاميين منهم، من خلال أجهزته القهرية، البوليس وأجهزة المخابرات، وبات يعرف هذا العنف في هذه الحالة بالعنف الرسمي أو الحكومي.
في مرحلة ما بعد الثورة، وبعد تسلم حكومة الترويكا مقاليد السلطة في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة التي تمر بها البلاد، تزايدت موجات العنف السياسي من قبل بعض الجماعات السلفية المتحالفة مع الجناح المتشدد لحركة النهضة الإسلامية، القوة المسيطرة في الترويكا الحاكمة، واتخذ هذا العنف أشكالاً عديدة، منها:
1- في ظل الفراغ السلطوي الذي كان قائماً في تونس طيلة المرحلة الماضية ما قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011، إضافة إلى هشاشة الحكومة المؤقتة، ظهر السلفيون بلباسهم المميز ولحاهم الطويلة في العديد من المدن التونسية، لاسيَّما في العاصمة، وبنزرت، وسوسة، رغم أنهم لا يشكلون سوى أقلية ضئيلة في الطيف الإسلامي الواسع، لكنهم يريدون فرض منظومتهم العقدية التي يؤمنون بها، ويقدسونها ويتمسكون بها ولا يقبلون فيها نقاشاً ولا حواراً بواسطة العنف المنهجي على مجتمع تونسي يغلب عليه الإسلام السني المالكي المعتدل، والتقاليد والقيم العلمانية في شكل واسع. وقد ترجم السلفيون المتشددون ظهورهم في الفضاء السياسي التونسي من خلال المواجهات المتفاوتة في حدتها: ففي مدينة سوسة، شهدت كلية الآداب بهذه المدينة الساحلية في شهر أكتوبر 2011 أحداث خطيرة تمثلت أساسا في اقتحام مجموعة من الملتحين(نحو 200 إسلامي متشدد) يوم السبت 8 أكتوبر 2011 لحرم الكلية بدعوى حق منتقبة في التسجيل، إلا أن الأحداث تطورت بشكل ملفت للانتباه حيث عمدت هذه المجموعة إلى تعنيف الكاتب العام للكلية والاعتداء على سيارته بالإضافة إلى توعد الطلبة بأشكال شتى من التعنيف وذلك تحت نظر الأمن والجيش الذي اكتفى بالتفرج.
2- في 9 أكتوبر 2011، حاول السلفيون المتشدّدون مهاجمة قناة نسمة الخاصة، بعدما بثت فيلماً فرنسيا -إيرانيا، تم فيه تجسيد الذات الإلهية. ففي ولاية سيدي بوزيد يوجد معقل الخطيب الإدريسي، الذي يوصف بأنه شيخ السلفية، حيث سجن مابين 2006 و2009 بتهمة «الإفتاء بالقيام بعمليات جهادية وعدم إبلاغ عن جريمة إرهابية». وينشط أتباعه في مواقع التواصل الاجتماعي، وتجد في «فيسبوك» صفحة «رسمية» تحمل اسمه، لها أقل من سبعة آلاف معجب. وفيما دعي إلى احتجاجات على قناة «نسمة» وحصرها في المحافظات (الولايات)، و«الحذر من التوجه للعاصمة. الحكمة مطلوبة والحذر من الاستدراج للتكسير والحرق». بيد أن السلفيين نظموا تظاهرة كبيرة جابت شوارع العاصمة بعد صلاة الجمعة للتنديد بمحطة «نسمة»، تحت شعار «الشعب يريد الخلافة الإسلامية»، وأحرقوا في المساء منزل مديرها السيد نبيل القروي.
3- دعوة رئيس حركة النهضة السابق الصادق شورو إلى قطع أرجل وأيدي المعتصمين الذين «يمثلون جيوب الردة التي تسعى في الأرض فسادا».. والصمت على ما يقوم به السلفيون المتشددون من ممارسات استرعت غضباً شعبياً، كاحتلال جامعة منوبة في العاصمة للسماح للمنتقبات بدخول الحصص الدراسية وتقديم الامتحانات، ومطالبتهم بفصل الذكور عن الإناث وبناء مصلى، واعتدائهم على عميد الكلية، ما أثار ردود فعل من عدد من الجهات الحزبية والنقابية التونسية... والتساهل مع ما قام به أحد السلفيين أمام الكلية ذاتها، من إنزال العلم الوطني التونسي ووضع محلّه علماً أسود (كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله)، قبل أن تتصدى له شابة جامعية وتتعرض للضرب.. ووصفت الصحف التونسية الطالبة الشابة «خولة الرشيدي» بـ«الجريئة» إثر تصدّيها للشاب السلفي الذي نزع علم تونس أمام كلية منوبة في 7 مارس 2012، إذ ما لبثت أن ردّت راية تونس إلى مكانها حتى بدأت «معركتها» مع السلفيين. وتحدثت«خولة الرشيدي » إلى إذاعة «موزاييك أف أم» التونسية غداة الحادثة قائلة، إنها قامت بذلك «من غيرتها على العلم التونسي» وإنها لم تهدف إلى نزع العلم الأسود.
4- المواجهات التي جرت يوم الجمعة 14 سبتمبر 2012 في محيط السفارة الأمريكية بتونس بين قوات الأمن ومتظاهرين ينتمي معظمهم إلى التيار السلفي، ما أوقع أربعة قتلى و49 جريحا، بحسب مصدر بوزارة الصحة التونسية، وجرت التظاهرات احتجاجا على فيلم مسيء للإسلام أنتج في الولايات المتحدة. وحطم المتظاهرون نوافذ مبنى السفارة الأمريكية في تونس وألقوا قنابل بنزين وحجارة على الشرطة من داخل السفارة وأضرموا النار في السفارة ومجمعها في استمرار الاحتجاجات ضد الولايات المتحدة، وتسلقوا جدران مبنى السفارة واقتحموها، قبل أن يستبدلوا العلم الأمريكي بعلم أسود كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله.
5- مهاجمة سلفيين حانات مرخصا لها في مدينة سيدي بوزيد وإغلاقها بالقوة في نهاية شهر سبتمبر الماضي، إضافة إلى اقتحام فندق سياحي في المدينة، الأمر الذي أضر كثيرا بالسياحة التونسية، بوصفها تمثل مكوناً أساسياً من مكونات الاقتصاد التونسي.
6- مقتل الكاتب العام للاتحاد الجهوي للفلاحين لطفي منقض (ينتمي إلى حزب نداء تونس الذي يتزعمه رئيس الحكومة السابق السيد الباجي قائد السبسي) بمدينة تطاوين التي تبعد 600 كلم جنوب العاصمة، يوم 18 أكتوبر 2012، على إثر احتجاجات قامت بها، "رابطة حماية الثورة " التي تصنفها المعارضة التونسية بأنها مليشيا تابعة لحركة النهضة الإسلامية الحاكمة، حيث قامت بارتكاب اغتيال سياسي وجريمة دولة.علماً بأن الدولة التي تسيطر عليها حركة النهضة الإسلامية لم ترتكب الجريمة وإنما أسهمت فيها بالصمت عن كل تلك التهديدات والاعتداءات السابقة التي تعرض لها هذا المعارض. واعتبر أحمد إبراهيم رئيس حزب المسار الديمقراطي المعارض أن رابطات حماية الثورة حصلت على ترخيص على أساس أنها جمعيات لكنها أصبحت تدعو إلى ممارسة العنف والكراهية، وهو ما يجعل المطالبة بحلها أمراً قانونياً حسب قوله.
7- تجمع عشرات الناشطين الإسلاميين من الجماعات السلفية الذين حمل بعضهم السكاكين، واقتحموا، مسجد النور في حي دوار هيشر قرب منوبة في الضاحية الغربية لتونس العاصمة يوم الثلاثاء30 أكتوبر ما أدى إلى مقتل إمام الجامع. واتخذ السلفيون من جامع النور بدوار هيشر ثكنة عسكرية يجمعون فيها قنابل المولوتوف والسكاكين، وقاموا بمهاجمة بائعي الخمور في مدينة منوبة. فعقب وصولها للسلطة قالت حركة النهضة إنها لن تمنع الخمور ولن تفرض الحجاب لكنها تواجه ضغوطا كبيرة من المتشددين الذين يطالبون بإقامة دولة إسلامية والعلمانيين الذين يطالبون بالتصدي الحازم لاعتداءات السلفيين على الحرية الفردية. وهاجم السلفيون مركز الأمن في حي خالد بن الوليد في دوار هيشر غرب العاصمة، الأمر الذي نجم عنه اندلاع اشتباكات عنيفة بين العناصر السلفية وقوات الأمن التونسية يومي الثلاثاء والأربعاء 31 أكتوبر 2012، أدت إلى مقتل عنصرين من السلفيين، وجرح ثلاثة أعوان من الأمن.
تعكس لنا هذه الوقائع كلها، اتساع أعمال العنف السياسي التي تمارسها الجماعات السلفية في تونس، منذ انتصار الثورة التونسية وإطلاق مئات العناصر السلفية المرتبطين بتنظيم "القاعدة" أو بفروعها من السجون التونسية، حيث بدأ هؤلاء يشكلون جماعات قليلة العدد، لا تتردد في اللجوء إلى استخدام العنف مع مجتمع اعتاد، بحكم مزاجه وتاريخه، على الاعتدال والوسطية. وأطلق السلفيون الحاليون العنان لملاحقة السيدات في الشوارع من أجل حملهن على ارتداء الحجاب أو النقاب، وأغاروا على مكتبات لتمزيق كتب وحجب أخرى، مع تهديد أصحابها بحرق المحلات إن لم يمتثلوا. كما غزوا المنتجعات على السواحل صيفاً لطرد النساء وفرض الجلباب على الجميع، لاسيَّما في مدينة سوسة، أحد المنتجعات السياحية الرئيسة في البلد، لطرد السياح منها، ما سيدمر قطاعاً كان يؤمن نحو خُمس إيرادات البلد من العملة الصعبة.
وتتبنى الجماعات السلفية التي تمارس العنف ضد المجتمع في تونس فكراً انقلابياً، يقوم على أساس تكفير النظم الحاكمة، والعمل على تغييرها بالقوة، وبناء مجتمع إسلامي استناداً إلى المبادئ الإسلامية الصحيحة كما جاءت في الأصول (القرآن والسنة) حسبما تتصورها هذه الجماعات.أمَّا لماذا تمارس هذه الجماعات السلفية العنف المادي في تونس، فهناك عدة تفسيرات، منها،
أولا: التحالف الذي أقامته حركة النهضة مع الجماعات السلفية المتشددة، وعدم التوجه الحقيقي من جانب حركة النهضة نحو بناء دولة ديمقراطية تعددية، أي دولة مدنية، وإقامة دستور ديمقراطي يليق بالثورة التونسية، وهذا ما كشفه الخطاب المزدوج لزعيم النهضة الشيخ راشد الغنوشي، حين قال لهؤلاء السلفيين في الشريط المسجل الذي تم تسريبه مؤخرا، بعدم الاستعجال، ونبههم إلى ما حصل في الجزائر حين فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الدورة الأولى في شهر ديسمبر 1991. فبعد تسريب الشريط الذي جمع الشيخ راشد الغنوشي بوفد من الجماعات السلفية المتشددة، تبين لكل التونسيين حقيقة موقف الغنوشي نفسه، الذي قال لمحاوريه: أن يمنحوا حركة النهضة مزيداً من الوقت كي تصل إلى مرحلة التمكن والسيطرة على مفاصل الدولة، بصفة متدرجة، بما في ذلك السيطرة على أجهزة الأمن والدولة، حتى تتمكن حركة النهضة الإسلامية من فرض مشروعها الإسلامي بإقامة الدولة الإسلامية، وفق رؤاها، وتكون آنذاك الأحزاب السياسية التونسية المعارضة التي قبلت بالدستور الذي يتضمن إعلانات عامة حول حقوق الإنسان، من دون الإشارة إلى مرجعيتها الكونية، وحول حقوق المرأة، من دون التنصيص على صيانة المكاسب التاريخية التي حققتها المرأة التونسية في مجال قانون الأحوال الشخصية، قد أصبحت في موقع الطرف الضعيف، لكي تفسح حركة النهضة في المجال الواسع لعملية التأويل لمبادئ الدستور، وتجييره لما يخدم مخططاتها.
ثانيا: تعثر الأيديولوجيات اليسارية والقومية والليبرالية في العالم العربي، حيث إن الرقعة الثقافية في معظم البلدان العربية أصبحت ضيقة جدا، لكي تنمو الأفكار الديمقراطية والعلمانية والليبرالية، وذلك تتصل بالتكوين الثقافي والعقيدي عند جيل الشباب ما بعد انقلاب السابع من نوفمبر عام 1987، الذي لم يعد يؤمن كثيرا بالأيديولوجيات التقدمية، فيما ذهب قسم آخر من الشباب نحو التدين، ما مهد المجال للحركات الإسلامية، وللجماعات السلفية، لكي تستقطب منه أعداداً كبيرة.
ثالثا: بساطة الخطابات الإسلامية التي تقدمها الحركات الإسلامية، والجماعات السلفية المتشددة، ووضوحها، حيث تقدم إجابات سهلة لمشكلات المجتمع، التي تختزلها بالبعد عن ممارسة الشريعة الإسلامية، وبناء المجتمع المسلم.
رابعاً: طبيعة الفكر الانقلابي الذي تتبناه الجماعات السلفية المتشددة، إذ يشكل هذا الفكر دافعاً للعنف ومبررا له، وطغيان عنصر الشباب من الطبقات الفقيرة في التكوين التنظيمي لهذه الجماعات.
من هنا، نؤكد أن السلفيين الجهاديين التونسيين الذين يمارسون العنف السياسي، هم جزء لا يتجزأ من شبكة دولية مرتبطة بتنظيم «القاعدة» وأخواتها، على رغم من المسافة الكبيرة التي قطعها الشعب التونسي في مجال التحديث منذ القرن التاسع عشر نخبة ومجتمعاً ودولة.
نقلا عن صحيفة الشرق القطرية
ليست هناك تعليقات:
Write comments