حسان حاجبي *
لا زالت «الوعدة» او « الزردة»، وتعني مأدبة الأكل، تُقام كل خميس في أجواء احتفائية داخل مقامات وزوايا الأولياء الصالحين في تونس، كعنوان شكر لما قدمه هذا الولي أو ذاك لمريديه، أو كتعبير عن التلاحم والتواصل الاجتماعيين في إطار عفوي. وترتبط هذه الزيارات والعادات بطقوس تعبدية كقراءات القرآن والأدعية، وتندرج ضمنها الموسيقى والغناء الصوفيان. تتعدد هذه المقامات، خاصة في مدينة تونس العاصمة التي تضم أكثر من 123 زاوية يعود أغلبها إلى العهد الحفصي، ما بين الأعوام 1229 و1574 ميلادي. وهي أماكن يستحضر كل منها شخصية تاريخية لها خصالها المميزة التي تمنحها الاحترام والتقدير. تمثل حياة هذه المقامات مكاناً لمراقبة الكيفيات التي يقوم فيها التاريخ بمراكمة استمراريته، أي حضور الماضي في الحاضر الاجتماعي. ورغم ما لهذه الأضرحة من قيمة تراثية ومعمارية ومعرفية كبيرة، إلا أنها، مقارنة بسائر الآثار التي تزخر بها تونس، تتعدى تلك الأبعاد لتجسد حضوراً متجدداً وفاعلاً في حياة الناس. وهي استفادت من روافد واسهامات غذّت تماسك نسيج المجتمع عبر الأزمنة. وأما مقام « السيدة المنوبية» فهو يتوسطها كلها ويعتبر منارة في الثقافة الشعبية التونسية.
«السيدة» كما يسميها التوانسة، هي عائشة الهاشمية المنوبية بنت الشيخ المرابط عمران أو عمر بن الحاج سليمان المنوبي وفاطمة بنت عبد السميع المنوبي، عاشت بين العامين 1197 و1267 ميلادي. وقد عاصرت اثنين من أعلام التصوف والإنشاد الصوفي في تونس هما أبو الحسن الشاذلي وأبو سعيد الباجي. ويُروى أنها كانت امرأة متعلمة ومتعطشة للتحرر، وكانت تلعب دوراً اجتماعيا عاماً. وهو ما جعل لها مقاماً يتجه إليه مريدوها والناس عامة.
ولمقامها اليوم أهمية اجتماعية ودينية وثقافية، فهو مكان يرتاده الناس بصفة دورية أو عفوية للتعبد وللتقرب من الله، ولطلب توسط السيدة وكراماتها في حل مشكلاتهم. وبعيداً عن هذا الدور التقليدي المتشارك مع سائر المقامات، تحوَّل هذا المقام إلى مصحة نفسية يقصدها الباحث عن الطمأنينة والراحة، وكذلك الطالب والدارس للتنقيب في أرشيفها الغني. وقد تحول المقام إلى مؤسسة تقدم خدماتها الاجتماعية مكتفية اقتصاديا بنفسها، ففيها تقام حفلات الختان والزواج. وهو ملجأ لنساء وحيدات أو فقيرات، يقمن بين جنبيه، يخدمنه ويأويهن. ومن التبرعات التي يقدمها المرتادون تُقام موائد الأكل للجميع، حيث يجلبون مستلزمات الطبخ ويشرفون على إعداد الأكل بأنفسهم، ويأكلونه سوية.
ولا زال حضور الإنشاد الصوفي يلعب أهمية كبيرة في مقام «السيدة المنوبية»، كتراث متواصل تناقلته الأجيال شفوياً، وخاصة ذاك الذي نما وانتشر انطلاقا من مقام الوليين الصالحين أبو الحسن الشاذلي و أبو سعيد الباجي . ففي شهر رمضان، تعقد مجالس الإنشاد والغناء لذكر الله ولترويض النفس وبعث الطمأنينة والسكون فيها. ومن أهم الطرق الصوفية التي لا زالت تلازم مقام الولية الصالحة هي الطريقة الشاذلية، والتي كانت السيدة عائشة المنوبية احد روادها، وهي طريقة مبنية على الذكر وملازمة الخلوة للتعبد، بما يوفر للمنتسبين إليها السعادة الروحية وصفاء القلب. كما تتحول حلقات الإنشاد إلى خلايا للإبداع ولارتجال الأشعار وتلحينها. ويعكس ذلك تقبل المجتمع للأشكال المختلفة للتعبيرات الفنية التي توفر المتعة والراحة النفسية، وخاصة تلك التي تكون متبوعة بأجواء الاحتفال الجماعي.
يعزز مقام «السيدة المنوبية» الثقافة الشعبية التي تختلف تماما عن ثقافة النخبة، وتبتعد عن الأطر الرسمية، خاصة السياسية منها. ولعل ذلك ما أزعج تلك المجموعة السلفية التي هاجمت الضريح منتصف تشرين الاول/اكتوبر الجاري وأتلفت محتوياته وأحرقته. الفعلة لم تكن الأولى من نوعها في تونس ما بعد الثورة، فقد وقعت سلسلة من الهجمات في الساحل التونسي حيث تكثر هذه المقامات، منها اعتداء في 8 أيار/مايو الفائت على مقام ‘’سيدي محارب’’ في منطقة «المنستير»، بعد تهديدات وجهتها عناصر سلفية لأهالي المنطقة بعدم زيارة هذا الولي. ثم تكرر الأمر نفسه في ليلة العاشر من آب/اغسطس في منطقة الوسط التونسي في ولاية سيدي بوزيد، حيث قام «مجهولون» بحرق زاوية «سيدي عبد الله الغريب»، بقصد تلويث القدسية التي تحظى بها هذه الأمكنة، وإجبار الناس على التخلي عن تقاليد وعادات متوارثة، تمثل جزءا لا يتجزأ من حياتهم اليومية.
وبعيداً عن المعتقدات التي ترى في ممارسات المتصوفة نوعاً من «الوثنية» لتجسيدها التعبد في أشخاص وأماكن، فما دفع تلك الجماعات إلى أفعالها تلك هو الصراع الجاري بكل عنف على أرضية إسلام شعبي منتشر بين الفقراء كملاذ من صعوبات الحياة. تجسد السيدة المنوبية إسلاما يقوم على التراحم، ويقدم علاوة على ذلك نموذجاً روحانياً متسامحاً يكاد يكون فلسفياً، بمقابل حركات «الجهادية السلفية « ذات الممارسات والمعتقدات الجلفة والتبسيطية. هذا علاوة عن الحضور الاستثنائي للسيدة المنوبية خارج مقامها. فقد أطلق اسمها منذ سنوات على إحدى الولايات حيث يوجد مقامها الذي وقع عليه الاعتداء، كما انه يطلق على مسجد «الصفصافة» الذي كانت تتعبد فيه رفقة شيوخ الصوفية، وكذلك على نفق يعرف بـ«داموس السيدة»، دون أن ننسى احد اكبر أحياء العاصمة الذي يسمى حي «السيدة».
سؤال إضافي يتعلق باستهداف المقام والحال تلك. هل شعبية «السيدة عائشة» هي السر، أم هوجمت لكونها امرأة تحوز على هذا القدر من ارتفاع المكانة!؟
* باحث من تونس
ليست هناك تعليقات:
Write comments