اختار الإسلاميون في تونس البقاء خارج دائرة المنافسة المباشرة على الانتخابات الرئاسية، والمشاركة في اللعبة السياسية عن بعد بتحريك الأحداث وتوجيه المسارات بما يخدم تموضعهم السياسي الجديد.
هذا ما بدا واضحاً أمس الأول، حيث لعب رئيس «حركة النهضة» راشد الغنوشي، دوراً محورياً في إخماد نار الخلاف التي كادت تعصف بالمسار الانتخابي في تونس، بعد لقاء جمعه برئيس الجمهورية المُنتهية ولايته المرشح المنصف المرزوقي، أسفر عن تراجع الأخير عن موقف التصعيد وقبول التوافق الوطني.
الإسلاميون والرئاسة
لم ترشح «النهضة» أحداً من قياداتها، واكتفت بتمركزها كقوة ثانية في المشهد السياسي والبرلماني الجديد، بعدما حصدت 69 مقعداً في البرلمان المنتخب حديثاً، في حين تحصل حزب «نداء تونس» على المركز الأول بغالبية برلمانية بلغت 86 مقعداً.
وحفاظاً على الهدنة السياسية مع «نداء تونس»، لم تدعم «النهضة» بصفة معلنة أحد المشاركين في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة، ولكن نتائج الدورة الأولى عكست دخولها الصراع الرئاسي بكامل ثقلها عبر دعم قواعدها للمرزوقي، الحليف التاريخي والأكثر وفاء لمناصرة برامج الإسلام السياسي.
حصد المرزوقي نتيجة مبهرة كشفت دعم القطب الانتخابي الثاني في تونس له بشكل مفضوح، فقد تجاوز الجولة الأولى من الرئاسية بفارق ستة في المئة فقط عن الفائز الأول الباجي قائد السبسي. فحزب المرزوقي، «المؤتمر من أجل الجمهورية» الذي يدعم ترشحه في العلن، مُني بهزيمة فادحة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، إذ لم يحصل إلا على أربعة مقاعد، في حين كان في المركز الثاني بـ29 مقعداً بعد «النهضة» في انتخابات العام 2011.
ويتصدر المرزوقي المشهد الانتخابي اليوم، بدعم خفي من «الإسلاميين»، كمنافس قوي للسبسي في الجولة الرئاسية الثانية المزمع إجراؤها نهاية شهر كانون الأول الحالي، في منافسة تحولت إلى صراع إعلامي وحرب تصريحات كادت تجر البلاد إلى أزمة عنف داخلية.
استعمل الخصمان كل الوسائل المشروعة واللامشروعة خلال حملتيهما الانتخابية المبكرة، وعرف الصراع ذروته بالخلاف القانوني الذي سرعان ما تطور إلى أزمة سياسية واحتقان مجتمعي.
انطلقت أطوار الخلاف، برسالة أولى بعث بها المرزوقي، بصفته الرئاسية، إلى السبسي بوصفه الفائز بغالبية المقاعد والمسؤول عن تكليف رئيس الحكومة، طلب فيها تحديد شخصية قبل انقضاء الأجل ليكلفه بنفسه تشكيل الحكومة، وهو ما اعتبره السبسي استفزازاً مباشراً وسخرية، بعد التوافق في الحوار الوطني حول إرجاء المسألة الى ما بعد الرئاسية.
تدخل الحوار الوطني في جلسة استثنائية، وجدد التوافق حول تأجيل التكليف إلى الرئيس المنتخب، واتصلت قيادات المنظمات الأهلية الأربع المشرفة على الحوار الوطني بالمرزوقي لمطالبته الالتزام بالتوافق الوطني. ولكن الرئيس المنتهية ولايته أبى إلا التصعيد وتمسك بهذا الاختصاص.
أرسل السبسي بدوره إلى المرزوقي رسالة، ردّ فيها مقدماً تأويلاً للخلاف الدستوري حول مسألة التكليف، إلا أن الرئيس المؤقت تمسك بقراره الأول وبعث برسالة ثانية يطلب من منافسه الالتزام بآجال التكليف، مؤكداً بذلك تمسكه بموقفه الأولي، ما رفع درجة الاحتقان بين الطرفين وتحول إلى سجال اعلامي بين قيادات حزبي المرشحين، ما دفع الحوار الوطني الى عقد جلسة طارئة لامتصاص الأزمة قبل توسع رقعتها أكثر.
وانتهى الحوار الوطني بعد اجتماعه الطارئ للفرقاء السياسيين بحضور أكثر من 14 حزباً يتقدمهم القطبان، «النداء» و»النهضة»، ومن دون مشاركة حزب رئيس الجمهورية ولا أي طرف يمثله، ببيان توافق أعلن فيه نجاح الوساطة بين المرزوقي والسبسي.
ودعا الحاضرون إلى التهدئة السياسية والتعقل في مخاطبة الجماهير الشعبية وتجنب التحريض وتقسيم التونسيين والعمل على إنجاح الانتقال الديموقراطي بإتمام الجولة الثانية من الرئاسة في كنف المنافسة النزيهة.
وقال عميد المحامين التونسيين محمد الفاضل بن محفوظ، المتحدث باسم المنظمات الأربع المشرفة على الحوار الوطني، إنه تم تخطي الأزمة السياسية بين المرزوقي والسبسي على أن يقع تعيين رئيس الوزراء إثر الانتخابات الرئاسية من قبل رئيس الجمهورية المنتخب.
وأضاف بن محفوظ في حديثه إلى «السفير» أن «رئيس حركة النهضة لعب دوراً كبيراً في تجاوز الأزمة السياسية بإقناعه المرزوقي»، مؤكداً أن «مساعي الحوار الوطني في النهاية قد نجحت في بسط توافق وطني حول هذا الخلاف بإجماع محترم من الأحزاب الوطنية الكبرى».
وساطة الغنوشي
حسم زعيم «النهضة» راشد الغنوشي الخلاف بعد لقائه المرزوقي وتوقيعه وثيقة التوافق الوطني، بأن طلب من الرئيس المنتهية ولايته التخلي عن السجال العقيم حول تكليف رئيس الحكومة والالتزام بالتوافق الوطني من أجل المصلحة الوطنية. كما طالبه بسحب الطعون التي قدمها ضد نزاهة نتـــــائج الانتخابات بهدف اخــتزال آجال إجراء الدور الثاني إلى منتصف كانون الأول الحالي بدل تأجيلها حتى نهاية الشهر.
وعن فحوى لقائه بالمرزوقي، قال الغنوشي في حديث إلى «السفير» إن «أمن البلاد واستقرارها أهم من فوز أحد المرشحين في الرئاسة، وإن دماء المسلمين والتونسيين أغلى من أن تُهدر بسبب نصرة أحد الطرفين»، محملاً السبسي والمرزوقي تبعات تصريحاتهما الأخيرة.
وبيَّن الغنوشي لـ»السفير» أنه اضطلع بمهمة الوساطة بطلب ملحّ من الرباعي المشرف على الحوار الوطني، والذي طلب منه إجراء لقاء مع المرزوقي لثنيه عن تصعيد خلاف تكليف رئيس الحكومة المقبل، موضحاً أنه نجح في إقناع المرزوقي بإنهاء المسألة، كما طلب منه توجيه دعوة للتهدئة في البلاد وسحب الطعون في نتائج الانتخابات.
وأضاف زعيم «النهضة» أنه «لا مجال للتظاهر الآن ولا للاحتجاجات من أجل نصرة أحد المنافسين، فوسيلة التعبير الوحيدة هي صناديق الاقتراع والمضي للانتخابات في أسرع وقت ممكن».
وقال الغنوشي لـ» السفير»: «أدعو المرشحين أن يتقوا الله في بلدهم، فالعالم كله ينظر إلى التجربة التونسية، لا تفسدوها، وترفعوا عن ذلك وكونوا كباراً كما ينظر إليكم العالم، وبرهنوا أن تونس مؤهلة للديموقراطية والتعددية، وأن الأمن والاستقرار لا يحتاجان إلى دولة بوليسية بقدر ما يحتاجان إلى وعي وطني».
ليست هناك تعليقات:
Write comments