بقلم: الفضل شلق
مهمة النخبة الثقافية هي أن تفكر وتعرف وتلتزم؛ وأن تغيّر العلاقة بالمكان والزمان، أي بالجغرافيا والتاريخ.
أن تفكر معناه أن تتحرر مما يقيّد العمل والروح والنفس، هو أن تفكر باستقلالية. كانت مهمة الاستبداد الأولى هي التفكير بالنيابة عن الناس بما أنتج فصاماً ذاتياً وجماعياً. تراجع الوعي؛ فقد المجتمع ملكة التفكير. اعتبر الكثيرون أن الاستبداد والتفاهة الفكرية هما من خصائص مجتمعنا. وكان في رأيهم، أن علينا أن نغيّر ثقافتنا، وأن نلج الحداثة، أن نغيّر ما بأنفسنا، حتى نصبح أسوياء. تساوى لديهم ما بين الثقافة والطبيعة البيولوجية. أصبح التغيير الثقافي أشبه ما يتطلب تغيير الجينات الثقافية. صار التعبير الثقافي أشبه بالعنصرية الداخلية، عنصرية تمارسها أنظمة الاستبداد والنخب الثقافية على مجتمعنا؛ لكن، من دون جدوى. المهمة الحقيقية هي التجاوز الثقافي لا الهندسة الثقافية، لا تغيير الطبيعة الثقافية؛ البناء على ما سبق لا تغيير ما سبق. وكل ذلك من دون تبعية سياسية أو ثقافية. التبعية لا تنتج تجاوزاً، بل تنتج تقليداً جديداً. التقليد للغرب هذه المرة، لا التقليد المزعوم للتراث.
المهمة الثقافية الثانية هي أن نعرف، وأن نعرف كيف نعرف. كيف نعرف هو أن تكون جميع أنواع المعرفة مباحة ومتاحة، من دون رقابة أو توجيه. ولوج كل أبواب المعرفة حق وواجب. أول ما يجب التنبّه إليه هو الحذر مما بعد الحداثة، من إمكان التشكيك بالمعرفة الموضوعية. وجهة النظر ضرورية، لكن ليس كل شيء وجهة نظر. هناك ثوابت وهناك متغيرات.. التغير هو الذي يؤدي إلى التجاوز، تجاوز ما كنا عليه، وتجاوز ما نحن عليه. ما بعد الحداثة تمرين ضروري، مثل كل أنواع الفلسفة. لكنه ليس هو المطلوب في المسار الثوري العربي الراهن. علينا الإقرار بضرورة المعرفة الموضوعية. وعلينا الاعتقاد أنه يمكن تجاوز البنى الثقافية الراهنة بالتفكير الحر الطليق الذي يكسر كل القيود، قيود الاستبداد السياسي أو الديني، وغيرهما.
أما الالتزام، التزام النخبة الثقافية بمجتمعها، فهو يعني إعطاء الأولوية الأولى للجمهور ورغباته وحاجاته ووجدانه. وذلك يعني إسقاط الهوية الماضوية (السلفية) التي يحاول دين النفط إسباغها علينا. دين النفط يعيدنا إلى السلف الصالح كما يرونه هم، ويريدوننا العيش في الماضي والتجاوز يتطلب أن نصنع مشروعاً مستقبلياً للهوية. وأن نستفيد من الثقافة العالمية. يعني ذلك ألا نعيد كتابة التاريخ كما يمليه الحاضر السياسي، وأن نأخذ التاريخ كما هو، ونبني عليه، ونتجاوزه كما فعل أسلافنا في عصر النهضة في القرن التاسع عشر. هذا التجاوز الذي قضى عليه الفكر العربي في القرن العشرين بالتقوقع في صيغ إسلامية سياسية وقومية وماركسية مغلقة.
أما المكان فهو الجغرافيا العربية التي تشكل 10% من مساحة الأرض اليابسة و5% من سكانها. هذه الأرض الممتدة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، جنوبي البحر المتوسط وشمالي أفريقيا السوداء هي أرض يُراد لها أن تتحول كعلاقة اجتماعية إلى صحراء مجدبة لا تنتج. الإنتاج الوحيد هو النفط النابع من تحت الأرض والمغطى ببركة السماء. كانت الأرض منتجة قبل النفط. لم تستورد البلدان العربية المواد الغذائية قبل أن صار النفط المورد المالي الأساسي. بلدان النفط الغنية ترشو شعوبها ببعض واردات النفط، وترشو الجمهوريات (التي كانت ثورية) ببعض آخر. تغيير وجهة استعمال موارد النفط يساهم في تحويل الثورة العربية، خاصة في الجمهوريات غير النفطية إلى حروب أهلية. الإمبراطورية، وهي المستفيدة الأولى من ريع النفط، تشرف على مصادرة الثورة العربية، ثورة 2011، وتحويلها إلى فوضى عارمة. بالإمكان إعادة تحويل الصحراء إلى أرض منتجة؛ وبالإمكان بناء صناعة قوية؛ بالإمكان تحقيق الخلاص من التبعية الاقتصادية، وبالتالي السياسية؛ وبالإمكان تحقيق كيان عربي مستقل شرط الاعتماد على الموارد المحلية والعمل والإنتاج؛ وبالإمكان تحقيق كياني عربي مستقل شرط تحويل المنظومة العربية، منظومة دول الجامعة العربية، إلى اتحاد كونفدرالي؛ اتحاد يحافظ فيه كل قطر على ما له؛ ليطمئن سادة النفط الى أن لا أحد يطمع في ثروتهم.
أما الزمن فهو زمن الأصولية الإسلامية المتخذة اسماً جديداً هو السلفية، كي تبقى قريبة من الوهابية وفرضياتها ومن النفط ومفاعيله الاستهلاكية. ما يأتي من باطن الأرض يحتاج إلى بركة السماء، يحتاج إلى عقيدة دينية تحول الفكر والمعرفة والالتزام إلى فعل إيمان. الإيمان يتكرر في آيات وأحاديث مختارة انتقائياً لرسم طريق، من التزم بها فهو مؤمن ومن خالفها فهو كافر. التكفير محاكم تفتيش جديدة. ليس في أمرهم سياسة وتسويات. هناك التحليل والتحريم وحسب. وليس مطلوبا من المؤمن التفكير. التفكير يقود إلى الشك، والشك ربما قاد إلى الإيمان أو إلى غيره. الشك أساس العلم والعلم الذي يبدأ باليقين ليس علماً. يلغي العلم. يلغي التاريخ أيضاً لأنه يتطلب البحث والتمحيص والكثير من الشك بالروايات وما يعتبر وقائع.
زمان السلفية حوّل التاريخ إلى صحراء؛ صحراء مطابقة لجدب المكان المفترض. جدب الأرض والتاريخ حوّلا العرب، الذين يشكلون كتلة سكانية تقارب 400 مليون نسمة، إلى جماعات غير منتجة، عاطلة عن العمل، أو مبطلة عن العمل. البطالة تقود إلى اليأس. اليأس يقتل الكرامة. البطالة تقتل الكرامة. العمل لا لزوم له مع تدفق خيرات باطن الأرض. لكن كل ذلك أدى إلى خطف الثورة. الثورة تُسقط الحكّام. إنقاذ الحكّام يتطلب الحروب الأهلية. تعمل السلفية في صلب الحروب الأهلية لمصادرة الثورة، ولمصادرة إرادة الشعوب، ولمصادرة عروبتهم.
تدور حرب طاحنة في أنحاء الوطن العربي حول الوعي ودور النخبة الثقافية في إعادة تشكيله؛ بالأحرى، في التعبير عن وعي الجماهير العربية. الدور كبير، إذ هو يتعلق بإعادة صياغة المستقبل العربي. لا يتعجب المرء إذ يرى الرقابة الرسمية تقوم بعملها، والرقابة غير الرسمية تمارسها سلطات غير رسمية.
فتحت الثورة العربية أبواب النقاش والحوار؛ زجت في مرجل البحث مواضيع لم نكن نحلم بالتطرق إليها في العلن قبل الثورة. حطمت الثورة سقوف الفكر. بدأ الفكر يتحول عن بلادته. ذلك يقود إلى تعميم المعرفة وإلى تعميق الالتزام وإلى تزايد القدرة على تغيير الجغرافيا والانسجام مع منطق التاريخ الموضوعي. برنامج للمثقفين من خمس نقاط صعبة. الأكثر أهمية هو انفتاح النقاش، وسنكتشف الخطأ والصواب من هذا الانفتاح. سيقود ذلك إلى تلافي الخطأ وفعل الصواب. والتجربة هي البرهان.
ليس هناك طريق سلطوية لنيل المعرفة وإحراز التقدم.
عن "السفير" اللبنانية
ليست هناك تعليقات:
Write comments