"الشعب تقيأ من المجلس الوطني التأسيسي الذي أصبح مدعاة للقرف والاشمئزاز".. هذه بعض الكلمات التي أطلقها نائب المعارضة المنجي الرحوي بملء حنجرته مساء أمس تحت قبة المجلس الوطني التأسيسي، فاحتج عليها نواب كتلة حركة النهضة وغادروا القاعة غاضبين ساخطين بعد ان ثارت ثائرتهم، مما دعا العربي عبيد النائب الثاني لرئيس المجلس الذي أدار مساء أمس بقصر باردو أشغال اليوم الثاني للجلسة العامة الاستثنائية المخصصة للتداول حول الوضع العام في البلاد.
وقبل أن يقطع الصوت من المصدح، أوضح الرحوي أنه مع شرعية المجلس ومع الشرعية الانتخابية لكن تلك الشرعية أصبحت على حد تعبيره ضعيفة، ولأن المجلس أصبح على حد تأكيده سوقا للبيع والشراء.. وتباع فيه الذمم وتشترى.. ويقع تطميع الناس بالوظائف والوزارات والدخول في الحكومة. وأضاف ان المجلس فشل ولم ينته حتى من النقاش العام للدستور ولم يصدر التشريعات الضرورية وترك العنان للحكومة كي تعبث بالشعب وتضرب بعرض الحائط مطالبه المشروعة.
وأكد النائب ـ رفيق الشهيد شكري بلعيد ـ أنه لن يصمت ومازال كلاما كثيرا سيقوله للشعب بشأن المجلس وذكّر بأنه لا شيء يعلو على الشرعية الثورية، وبين أنه ليس لديه ما يحمله غير الكلمة الحرة والانحياز للشعب والوفاء لشهداء الثورة وجرحاها وللمناطق المعدومة.. وطالب بحل رابطات حماية الثورة والمليشيات التي تمارس العنف واصدار قانون لتجريم التكفير والتخوين.
كما كان العديد من نواب المجلس قد نددوا بشدة طيلة هذه الجلسة الاستثنائية التي وصفها أحدهم بجلسة "فرغ قلبك" بتهميش مجلسهم، واعترف العديد منهم بفشله، وحملوا رئيسه الدكتور مصطفى بن جعفر مسؤولية ذلك، وطالبوه بضبط روزنامة واضحة لأعماله، وتحديد مواعيد الانتهاء من صياغة الدستور، وتركيز الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والهيئة المؤقتة للإشراف على القضاء العدلي وتحديد موعد الانتخابات القادمة والمصادقة على مشروع قانون العدالة الانتقالية.. وانتقدوا الدعوات المحرضة على حل مجلسهم وخوّنوا المتخفين وراءها.
ومن المحاور الأخرى التي تطرّق إليها النّواب، وأبدوا آراءهم حولها بإطناب ما يتعلق بحكومة التكنوقراط، إذ اختلفت مواقفهم منها باختلاف مواقف أحزابهم.. ففي الوقت الذي رحب فيه نواب المعارضة والتكتل بمبادرة الجبالي، أصر نواب النهضة والمؤتمر على رفضها.
وجدّد جميعهم التنديد بجريمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد واعتبروها اغتيالا لتونس. واتهم عدد منهم، وخاصة نواب كتلة حركة النهضة، الإعلام "بعدم الحياد والعمل لفائدة الثورة المضادة"، واتهموا المعارضة بتأجيج الأوضاع وترصّد أخطاء الحكومة، مذكّرين "بمخاطر سياسة تجفيف المنابع واستئصال الاسلاميين"، ومحذرين "من المؤامرة على الشعب ومن الثورة المضادة".. وساد هذه الجلسة الساخنة، توترا كبيرا وتراشقا.. وتبادل الاتهامات سرعان ما تناقلته المواقع الاجتماعية.. فعلى سبيل الذكر نددت النائبة سناء مرسني بمنع طالبات منقبات من الدخول لكلية العلوم القانونية وتهديدهن وهو ما نفاه النائب الفاضل موسى عميد الكلية الذي استغرب خطابها المشحون، وقال إن الكلية تنظم أياما دراسية ضد العنف وإن طلبتها بصدد إعداد ميثاق ضد العنف وحذر من تداعيات مثل تلك الخطابات.
وتعقيبا على المداخلات المتشنجة دعا النائب محمد الحامدي النواب للتريّث، والابتعاد عن الخطابات الحربية من جنس المدفعية الثقيلة، وطالبهم بتغليب صوت العقل، وذهبت النائبة ريم الثايري إلى أبعد من ذلك ودعت جميع الساسة للتحلي بالأخلاق، والابتعاد عن الخطابات العنيفة، وتغليب المصلحة الوطنية. ونبّه النائب ناجي الغرسلي إلى أن الخطاب العنيف استغله أعداء الثورة وأعداء الشعب، وطالب الجميع بالكف عن التراشق بالتهم، وترجى النائب سعيد الخرشوفي نواب حركة النهضة أن يقولوا الحق ولو كان مرا.
تقييم أداء المجلس إضافة إلى ما قاله النائب المنجي الرحوي فإن النائبة نادية شعبان اعترفت بدورها صراحة بفشل المجلس الوطني التأسيسي وقالت إن الكل يرغبون في الاسراع في تنظيم الانتخابات، وللمجلس دور رئيسي في وضع روزنامة لكن لجنة الفرز التي من المفترض أن تنظر في الترشحات للهيئة الانتخابية، لم تنه إلى اليوم أشغالها التي انطلقت فيها منذ شهر.. وبينت أن الوضع في تونس متأزم سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وامكانية الخروج من هذه الأزمة متوفرة وهي الوفاق لكن بعض الأطراف رافضة أن تضع مصلحة البلاد قبل مصلحة الأحزاب. وكررت النائبة حل رابطات حماية الثورة ومقاومة العنف ونبهت إلى أن تونس لا يمكن أن تكون إيران لأن التونسيين يرفضون العنف والانزلاق فيه.
وتكرر الدفاع عن شرعية المجلس الوطني التأسيسي عدة مرات، وذكرت النائبة فريدة العبيدي أن المجلس تحمّل الأمانة، والمطروح عليه الآن هو التعجيل في ضبط برنامج عمله خلال الفترة القادمة وانجاز الدستور، ونددت النائبة بمن يطالبون بحل المجلس واعتبرت ذلك انقلابا على إرادة الشعب.
لكن النائب مراد العمدوني فسر أن الشرعية هي في أن يكون النواب أوفياء لمن انتخبوهم وبالتالي لا يحق لأي أحد منهم التكلم باسم الشعب كله.. ودعا لضرورة قبول حق الآخر في التعبير عن رأيه وفي أن يكون مختلفا وعبر عن خشيته من تنامي ظاهرة العنف والتخوين وقال: "بعد أن كنا نحارب أزلام النظام السابق نجد أنفسنا اليوم أمام أزلام النظام الحالي الذي استطاع بسرعة أن يؤسس لدكتاتورية تستبيح الحياة اليومية للأفراد".
ونبه النائب أحمد الخصخوصي إلى أن المجلس لم ينهض بمسؤوليته الأخلاقية وأن أداءه كان دون المأمول ويدل اخلاله السياسي والأخلاقي على نقص النضج. ومن المآخذ الكبرى عليه هو تخليه عن دوره الأساسي الأصلي ليصبح من حيث الممارسة تابعا للسلطة التنفيذية، ولأنه لم يف بتعهداته تجاه المجموعة الوطنية. ودعا المجلس مؤسسة وأعضاء إلى تحمل المسؤولية والا يكون رهينة لدى أي طرف.
اتهام المعارضة
وفي المقابل تحمل النائبة حليمة القني المعارضة الكثير من المسؤولية وتصفها بالفاشلة وتتهم اليسار المتطرف بإحداث الفوضى والعمل ضد مصلحة الشعب. وانتقد النائب محمد الصغير بدوره المعارضة لكنه دعاها لمد يدها للتعاون مع السلطة، وطالب الاعلام بإنجاح الثورة والابتعاد عن التحيز وهو نفس ما عبر عنه النائب عبد القادر القادري وانتقد النائب زياد الدولاتلي بدوره المعارضة وبين أن ما تعيشه تونس اليوم انطلق منذ الاعلان عن نتائج الانتخابات اذ أن هناك قوى فوجئت بالنتائج ولم يرقها أن الشعب اختار حركة النهضة.. لكن مردّ الوضع الذي تعيشه تونس وفق قول النائب محمد كحيلة هو أن البعض لهم عصبية عمياء ويعتقدون أن البلاد بخير في حين أن الحقيقة غير ذلك. وحذر من التجييش الذي تقوم به رابطات حماية الثورة ومن الانتشار المذهل لجمعيات المجتمع المدني التي اتخذت واجهة للعمل السياسي والايديولوجي. وفي المقابل يرى النائب أحمد السميعي أن لجان حماية الثورة إذا أبعدت فستكون الكارثة الكبرى لأنها تتصدى للمليشيات الحقيقية التي تقتحم مقرات حركة النهضة وتقوم بالاعتصامات وتقطع الطرقات.
وأوضح النائب محمود البارودي أن المعركة ليست ضد حركة النهضة بل هي من أجل استئصال العنف من تونس.
الدولة العميقة
حذر النائب هيثم بلقاسم بشدة مما أسماه بالدولة العميقة أي الأجهزة التي كان يحكم بها بن علي والتي مازالت موجودة على حد قوله إلى حد الآن، وذكر أن المجلس يجب ألا يبقى متفرجا على السفينة التي تحمل كل التونسيين والتي يحدق بها خطر الغرق.. وبين أن هذه الدولة العميقة بدأت تصعد إلى السطح وستفتك بالجميع. وفي نفس السياق اعتبر النائب مختار اللموشي أن نظام بن علي بقي جاثما في الاعلام والنقابة وفي أجزاء كبيرة داخل المجتمع السياسي وحذر من القوى المضادة للثورة.
وفي نفس السياق تبين النائبة سهير الدردوري أن هناك من يتربصون بالثورة وأن المسؤول الحقيقي عن ضرب الشرعية هو من واصل سياسة اخفاء ملفات الفساد التي تدين سارقي الشعب وتكشف قتلة الشهداء..
أهمية الحوار
درس مفيد قدمه النائب طارق العبيدي وبين أن المرحلة الحالية تتطلب من الجميع الاستماع إلى بعضهم البعض وليس لأنفسهم فقط.. وذكر أن الشرعية ليست ملك النواب بل هي ملك للشعب والمطلوب اليوم من النواب هو التوافق حول روزنامة واضحة لأعمال المجلس والتوافق حول الدستور والهيئات.. وطالب النائب شكري يعيش المجلس بالابتعاد عن منطق الاغلبية والمعارضة وبان يكون فاعلا لان المرحلة الانتقالية مفصلية في تاريخ تونس.
وطالب النائب كمال السعداوي بتنقيح النظام الداخلي للمجلس ودعا مكتب المجلس لأن يضبط روزنامة تقريبية وواقعية لأعماله على أن يتعهد بها الجميع من أجل الذهاب الى انتخابات في أقرب وقت واقترح أن يقتصر عمل النواب على العمل التأسيسي وأن يفوض للحكومة جانبا من أعماله التشريعية.
وهو نفس ما طالبت به النائبة ريم محجوب التي ترى أن المجلس لا يمكن أن يواصل أعماله بالكيفية نفسها وعليه تعديل نظامه الداخلي ولاحظت أن هذا المجلس التأسيسي لم يقم بواجبه على النحو المطلوب وهو مسؤول عن الضبابية الموجودة في البلاد، إذ فشل في أن يكون ممثلا للشرعية، وحان الوقت ليقرر متى ينهي الدستور والقوانين الانتقالية والهيئات التعديلية. لكن ما يمنع هو طريقة المجلس في تسيير عمله، ورئيس المجلس هو المسؤول عن كل ما يحدث. وبشأن الحكومة، عبّرت عن أملها في أن يضع الجميع مصلحة تونس فوق كل اعتبار بالحوار وطني.. فالبلاد لا تستطيع الانتظار اكثر والمطلوب توفير الأمن والحد من غلاء المعيشة وتهيئة المناح لإنجاز انتخابات شفافة ونزيهة. وبين النائب محمد الحامدي أنه لم يكن من المتحمسين لبعث المجلس الوطني التأسيسي، لكنه اليوم يدافع عنه لأنه المؤسسة الشرعية المعبرة عن إرادة الشعب، وهي بكل عيوبها وتعثرها أفضل من الفراغ.. وأضاف أنه لا يوجد أي عاقل يدفع لفراغ المؤسسات والفوضى.
أما النائب محمود الماي فإنه اجتهد في اقتراح مشروع روزنامة، ودعا المجلس الوطني التأسيسي إلى الإسراع في أعماله والعمل على فرز وتنصيب الهيئة العليا المستقلة للانتخابات قبل شهر أفريل القادم، وبالتوازي مع ذلك يحرص على أن يكون مشروع الدستور جاهزا في نفس الوقت على أن يقع الانتهاء من المصادقة عليه في شهر جوان ليكون من الممكن اجراء الانتخابات بين 20 و27 أكتوبر، ودعا الماي بقية النواب للتوافق حول هذه الروزنامة التي اقترحها. وفي نفس الصدد ذكّر النائب نعمان الفهري بأنه اقترح منذ شهر جانفي روزنامة وأكد أنه لا يمكن للمجلس التقدم في أشغاله دون تحديد خارطة طريق واضحة.
وطالب النائب الهادي الشاوش بضبط خارطة طريق لصياغة الدستور وتركيز هيئة عليا للانتخابات والاقتصار على مشاريع القوانين المتعلقة بهيئتي القضاء والاعلام وارجاء النظر في المشاريع الكبرى للسلطة التشريعية الدائمة لتجنب الفكرة السائدة لدى العموم وهي أن المجلس مقصر.
عن الصباح,
◗ سعيدة بوهلال
ليست هناك تعليقات:
Write comments